للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يردّد النظر إليها، فقلت له: ما شأن هذه الرقعة؟ كأنه استعجم عليك شيء منه، فقال: هذه رقعة أبي عثمان الجاحظ، وكلامه يعجبني، وأنا أردده على نفسي لشدة إعجابي، فقلت: هل يجوز أن أقرأها؟ قال: نعم، وألقاها إليّ فإذا فيها: ما ضاء لي نهار ولا دجا ليل مذ فارقتك إلا وجدت الشوق إليك قد حزّ في كبدي، والأسف عليك قد أسقط في يدي، والنزاع نحوك قد خان جلدي، فأنا بين حشا خفاق، ودمع مهراق، ونفس قد ذبلت بما تجاهد، وجوانح قد أبليت بما تكابد، وذكرت وأنا على فراش الارتماض، ممنوع من لذة الاغماض قول بشار «١» :

إذا هتف القمريّ نازعني الهوى ... بشوق فلم أملك دموعي من الوجد

أبى الله إلا أن يفرق بيننا ... وكنا كماء المزن شيب مع الشهد

لقد كان ما بيني زمانا وبينها ... كما كان بين المسك والعنبر الورد

فانتظم وصف ما كنّا نتعاشر عليه، ونجري في مودتنا إليه في شعره هذا.

وذكرت أيضا ما رماني به الدهر من فرقة أعزائي من إخواني الذين أنت أعزهم، ويمتحنني بمن نأى من أحبائي وخلصاني الذين أنت أحبهم وأخلصهم، ويجرعنيه من مرارة نأيهم وبعد لقائهم، وسألت الله أن يقرن آيات سروري بالقرب منك، ولين عيشي بسرعة أوبتك، وقلت أبياتا تقصر عن صفة وجدي وكنه ما يتضمنه قلبي، وهي:

بخدّيّ من قطر الدموع ندوب ... وبالقلب مني مذ نأيت وجيب

ولي نفس حتى الدجى يصدع الحشا ... ورجع حنين للفؤاد مذيب

ولي شاهد من ضرّ نفسي وسقمه ... يخبّر عنّي إنني لكئيب

كأني لم أفجع بفرقة صاحب ... ولا غاب عن عيني سواك حبيب

فقلت لابن المدبر: هذه رقعة عاشق لا رقعة خادم، ورقعة غائب لا رقعة حاضر، فضحك وقال: نحن ننبسط مع أبي عثمان إلى ما هو أرق من هذا وألطف، فأما الغيبة فإننا نجتمع في كل ثلاثة أيام، وتأخر ذلك لشغل عرض لي فخاطبني

<<  <  ج: ص:  >  >>