قال الجاحظ: كان يأتيني رجل فصيح من العجم، قال فقلت له: هذه الفصاحة وهذا البيان، لو ادعيت في قبيلة من العرب لكنت لا تنازع فيها، قال:
فأجابني إلى ذلك، فجعلت أحفّظه نسبا حتى حفظه وهذّه هذا، فقلت له: الآن لا تته علينا، فقال: سبحان الله إن فعلت ذلك فأنا إذا دعيّ.
ومن كلام الجاحظ يصف البلاغة: ومتى شاكل أبقاك الله اللفظ معناه، وكان لذلك الحال وفقا، ولذلك القدر لفقا، وخرج من سماجة الاستكراه، وسلم من فساد التكلف، كان قمنا بحسن الموقع، وحقيقا بانتفاع المستمع، وجديرا أن يمنع جانبه من تأول الطاعنين، ويحمي عرضه من اعتراض العائبين، ولا تزال القلوب به معمورة، والصدور به مأهولة، ومتى كان اللفظ أيضا كريما في نفسه، متخيرا من جنسه، وكان سليما من الفضول، بريئا من التعقيد، حبّب إلى النفوس، واتصل بالأذهان، والتحم بالعقول، وهشت له الأسماع، وارتاحت له القلوب، وخفّ على ألسن الرواة، وشاع في الآفاق ذكره، وعظم في الناس خطره، وصار ذلك مادة للعالم الرئيس، ورياضة للمتعلم الريّض. ومن أعاره من معرفته نصيبا، وأفرغ عليه من محبته ذنوبا، حبب إليه المعاني، وسلس له نظام اللفظ، وكان قد أغنى المستمع عن كدّ التكلف، وأراح قارىء الكتاب من علاج التفهم.
وقرأت بخط أبي حيان التوحيدي من كتابه الذي ألفه في «تقريظ الجاحظ» :
وحدثنا أبو سعيد السيرافي، وهمّك من رجل، وناهيك من عالم، وشرعك من صدوق قال: حدثنا جماعة من الصابئين الكتّاب أن ثابت بن قرة قال: ما أحسد هذه الأمة العربية إلا على ثلاثة أنفس فإنه:
عقم النساء فلا يلدن شبيهه ... إنّ النساء بمثله عقم
فقيل له: احص لنا هؤلاء الثلاثة، قال: أولهم عمر بن الخطاب في سياسته ويقظته، وحذره وتحفظه، ودينه وتقيته، وجزالته وبذالته، وصرامته وشهامته، وقيامته في صغير أمره وكبيره بنفسه، مع قريحة صافية، وعقل وافر، ولسان عضب، وقلب شديد، وطوية مأمونة، وعزيمة مأمومة، وصدر منشرح، وبال منفسح، وبديهة