نضوح، وروية لقوح، وسر طاهر، وتوفيق حاضر، ورأي مصيب، وأمر عجيب، وشأن غريب- دعم الدين وشيد بنيانه، وأحكم أساسه ورفع أركانه، وأوضح حجته وأنار برهانه، ملك في زي مسكين، ما جنح في أمر إلى ونا، ولا غضّ طرفه على خنا، ظهارته كالبطانة، وبطانته كالظهارة، جرح وأسا، ولان وقسا، ومنع وأعطى، واستخذى وسطا، كل ذلك في الله ولله، لقد كان من نوادر الرجال، قال:
والثاني الحسن بن أبي الحسن البصري، فلقد كان من دراري النجوم علما وتقوى، وزهدا وورعا، وعفة ورقة، وتألها وتنزها، وفقها ومعرفة، وفصاحة ونصاحة، مواعظه تصل إلى القلوب، وألفاظه تلتبس بالعقول، وما أعرف له ثانيا، لا قريبا ولا مدانيا، كان منظره وفق مخبره، وعلانيته في وزن سريرته، عاش سبعين سنة لم يقرف بمقالة شنعاء، ولم يزنّ بريبة ولا فحشاء، سليم الدين، نقيّ الأديم، محروس الحريم، يجمع مجلسه ضروب الناس وأصناف اللباس، لما يوسعهم من بيانه، ويفيض عليهم بافتنانه، هذا يأخذ عنه الحديث، وهذا يلقن منه التأويل، وهذا يسمع الحلال والحرام، وهذا يتبع في كلامه العربية، وهذا يجرّد له المقالة، وهذا يحكي الفتيا، وهذا يتعلم الحكم والقضاء، وهذا يسمع الموعظة، وهو في جميع هذا كالبحر العجّاج تدفقا، وكالسراج الوهّاج تألقا، ولا تنس مواقفه ومشاهده بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الأمراء وأشباه الأمراء بالكلام الفصل، واللفظ الجزل، والصدر الرحب والوجه الصلب واللسان العضب، كالحجاج وفلان وفلان، مع شارة الدين، وبهجة العلم، ورحمة التقى، لا تثنيه لائمة في الله، ولا تذهله لائحة عن الله، يجلس تحت كرسيه قتادة صاحب التفسير، وعمرو وواصل صاحبا الكلام، وابن أبي إسحاق صاحب النحو، وفرقد السبخي صاحب الدقائق، وأشباه هؤلاء ونظراؤهم، فمن ذا مثله؟ ومن يجري مجراه؟ والثالث أبو عثمان الجاحظ خطيب المسلمين، وشيخ المتكلمين، ومدره المتقدمين والمتأخرين، إن تكلّم حكى سحبان في البلاغة، وإن ناظر ضارع النظّام في الجدال، وإن جدّ خرج في مسك عامر بن عبد قيس، وإن هزل زاد على مزبّد، حبيب القلوب، ومراح الأرواح، وشيخ الأدب، ولسان العرب، كتبه رياض زاهرة، ورسائله أفنان مثمرة، ما نازعه منازع إلا رشاه آنفا، ولا تعرّض له منقوص إلا قدم له التواضع استبقاء، الخلفاء تعرفه، والأمراء تصفه وتنادمه، والعلماء