تأخذ عنه، والخاصة تسلّم له، والعامة تحبه، جمع بين اللسان والقلم، وبين الفطنة والعلم، وبين الرأي والأدب، وبين النثر والنظم، وبين الذكاء والفهم، طال عمره وفشت حكمته، وظهرت خلته، ووطىء الرجال عقبه، وتهادوا أدبه، وافتخروا بالانتساب إليه، ونجحوا بالاقتداء به، لقد أوتي الحكمة وفصل الخطاب. هذا قول ثابت، وهو قول صابىء لا يرى للاسلام حرمة، ولا للمسلمين حقا، ولا يوجب لأحد منهم ذماما، قد انتقد هذا الانتقاد، ونظر هذا النظر، وحكم هذا الحكم، وأبصر الحقّ بعين لا غشاوة عليها من الحول، ونفس لا لطخ بها من التقليد، وعقل ما تخبّل بالعصبية. ولسنا نجهل مع ذلك فضل غير هؤلاء من السلف الطاهر والخلف الصالح، ولكنا عجبنا فضل عجب من رجل ليس منّا ولا من أهل ملتنا ولغتنا، ولعله ما خبر عمر بن الخطاب كلّ الخبرة، ولا استوعب كلّ ما للحسن من المنقبة، ولا وقف على جميع ما لأبي عثمان من البيان والحكمة، يقول هذا القول، ويتعجّب هذا العجب، ويحسد أمتنا بهم هذا الحسد، ويختم كلامه بأبي عثمان ويصفه بما يأبى الطاعن عليه أن يكون له شيء منه، ويغضب إذا ادعي ذلك له [وإنه] لموفر عليه، هل هذا إلا الجهل الذي يرحم المبتلى به.
قال أبو حيان: وحدثنا ابن مقسم [قيل لأبي هفان] وقد طال ذكر الجاحظ له:
لم لا تهجو الجاحظ، وقد ندّد بك، وأخذ بمخنّقك فقال: أمثلي يخدع عن عقله، والله لو وضع رسالة في أرنبة أنفي لما أمست إلا بالصين شهرة، ولو قلت فيه ألف بيت لما طنّ منها بيت في ألف سنة.
قال أبو حيان: سمعت أبا معمر الكاتب في ديوان بادوريا قال: كتب الفتح بن خاقان إلى الجاحظ كتابا يقول في فصل منه: إن أمير المؤمنين يجد بك ويهشّ عند ذكرك، ولولا عظمتك في نفسه لعلمك ومعرفتك لحال بينك وبين بعدك عن مجلسه، ولغصبك رأيك وتدبيرك فيما أنت مشغول به ومتوّفر عليه، وقد كان ألقى إليّ من هذا عنوانه فزدتك في نفسه زيادة كفّ بها عن تجشيمك، فاعرف لي هذه الحال، واعتقد هذه المنة [واعكف] على «كتاب الردّ على النصارى» وافرغ منه وعجّل به إليّ، وكن ممن حدا به على نفسه لتنال مشاهرتك. وقد استطلقته لما مضى، واستسلفت