فسأله كلّ واحد عما يعتقد في نفسه إتقانه من أنواع الكتابة، فأجاب عن الجميع أحسن جواب، وخاطبهم بأتمّ خطاب حتى بهرهم، فانتهى خبره إلى الوزير أنوشروان بن خالد فأدخله عليه، ومال بكلّيته إليه، وأكرمه وأدناه «١» ، فتحادثا يوما في مجلسه حتى انتهى الحديث إلى ذكر أبي زيد السروجي المقدّم ذكره، وأورد ابن الحريريّ المقامة الحرامية التي عملها فيه، فاستحسنها أنوشروان جدا وقال: ينبغي أن يضاف إلى هذه أمثالها، وينسج على منوالها عدة من أشكالها، فقال: أفعل ذلك مع رجوعي إلى البصرة وتجمّع خاطري بها، ثم انحدر إلى البصرة فصنع أربعين مقامة، ثم أصعد إلى بغداد وهي معه وعرضها على انوشروان فاستحسنها، وتداولها الناس، واتهمه من يحسده بأن قال: ليست هذه من عمله لأنها لا تناسب رسائله ولا تشاكل ألفاظه، وقالوا: هذا من صناعة رجل كان استضاف به ومات عنده فادّعاها لنفسه، وقال آخرون: بل العرب أخذت بعض القوافل، وكان مما أخذ جراب بعض المغاربة وباعه العرب بالبصرة، فاشتراه ابن الحريري وادعاه، فان كان صادقا في أنها من عمله فليصنع مقامة أخرى، فقال: نعم سأصنع، وجلس في منزله ببغداد أربعين يوما فلم يتهيأ له ترتيب كلمتين والجمع بين لفظتين، وسوّد كثيرا من الكاغد فلم يصنع شيئا، فعاد إلى البصرة والناس يقعون فيه ويعيطون «٢» في قفاه كما تقول العامة، فما غاب عنهم إلا مديدة حتى عمل عشر مقامات وأضافها إلى تلك، وأصعد بها إلى بغداد، فحينئذ بان فضله وعلموا أنها من عمله.
وكان مبتلى بنتف لحيته، فلذلك قول ابن جكينا فيه:
شيخ لنا من ربيعة الفرس ... ينتف عثنونه من الهوس
أنطقه الله بالمشان وقد ... ألجمه في العراق بالخرس
وقرأت بخط صديقنا الكمال عمر بن أبي بكر الدباس رحمه الله، حدثني علي بن جابر بن هبة الله «٣» بن علي حاكم ساقية سليمان قال: حدثني والدي جابر بن هبة الله أنه قرأ على القاسم بن علي الحريري المقامات في شهور سنة أربع عشرة وخمسمائة، قال: وكنت أظن أن قوله: