أن تسلك طريقته وتنشىء مقامات تخمد بها جمرته وتملك بها دولته؟ فقال: يا بني الرجوع إلى الحقّ خير من التمادي في الباطل، ولقد أنشأتها ثلاث مرات ثم أتأملها فأسترذلها، فأعمد إلى البركة فأغسلها، ثم قال: ما أظنّ الله خلقني إلا لاظهار فضل الحريري. وشرح مقاماته بشرح قرىء عليه وأخذ عنه.
وكتب ابن الحريري إلى سديد الدولة في صدر كتاب:
وما نومة بعد الضحى لمسهّد ... زوى همّه بالليل عن جفنه السّنه
بأحلى من البشرى بأنّ ركابكم ... ستسري إلى بغداد في هذه السنه
وقرأت في كتاب لبعض أدباء البصرة، قال الشيخ أبو محمد حرس الله نعمته معاياة:
ميم موسى من نون نصر ففسّر ... أيهذا الأديب ماذا عنيت
تفسيره ميم الرجل إذا أصابه الموم وهو البرسام، ويقال إنه أشد الجدريّ ونون نصر: حوت نصر، والنون السمكة، يعني أنه أكل سمكة نصر فأصابه الموم. وله في مثله:
باء بكر بلام ليلى فما ين ... فكّ منها إلا بعين وهاء
باء أي أقرّ، واللام الدرع، فلما أقر لليلى به ألزمته فلا ينفك منها إلا بعين أي بالدرع بعينه وها أي خذي.
حدثني أبو عبد الله الدبيثي، قال حدثني أبو الحسن علي بن جابر، حدثني أبي أبو الفضل جابر بن زهير قال: حضرنا مع ابن الحريري في دعوة لظهير الدين ابن الوجيه رئيس البصرة في ختان ابنه أبي الغنائم، وكان هناك مغنّ يعرف بمحمد المصري وكان غاية في امتداد الصوت وطيب النغمة فغنى:
بالذي ألهم تعذي ... بي ثناياك العذابا
ما الذي قالته عينا ... ك لقلبي فأجابا
فطرب الحاضرون وسألوا ابن الحريري أن يزيد فيها شيئا فقال:
قل لمن عذّب قلبي ... وهو محبوب محابى
والذي إن سمته ... الوصل تغالى وتغابى