مقام وترحال وقبض وبسطة ... كذا عادة الدنيا وأخلاقها النّكد
قرأت في «كتاب الوزراء» لهلال بن المحسن «١» : حدث القاضي أبو علي قال: نزل الوزير أبو محمد المهلبي السوس فقصدته للسلام عليه وتحديد العهد بخدمته، فقال لي: بلغني أنك شهدت عند ابن سيار قاضي الأهواز، قلت: نعم، قال: ومن ابن سيار حتى تشهد عنده، وأنت ولدي وابن أبي القاسم التنوخي أستاذ ابن سيار؟ قلت: إلا أن في الشهادة عنده مع الحداثة جمالا (وكانت سنّي يومئذ عشرين سنة) ، قال: وجب أن تجيء إلى الحضرة لأتقدّم إلى أبي السائب قاضي القضاة بتقليدك عملا تقبل أنت فيه شهودا، قلت: ما فات ذاك إذا أنعم سيدنا الوزير به، وسبيلي إليه الآن مع قبول الشهادة أقرب، فضحك وقال لمن كان بين يديه: انظروا إلى ذكائه كيف اغتنمها. ثم قال لي اخرج معي إلى بغداد، فقبّلت يده ودعوت له، وسار من السوس إلى بغداد، ووردت إلى بغداد في سنة تسع وأربعين وثلاثمائة، فتقدم إلى أبي السائب في أمري بما دعاه إلى أن قلّدني عملا بسقي الفرات، وكنت ألازم الوزير أبا محمد وأحضر طعامه ومجالس أنسه، واتفق أن جلس يوما مجلسا عاما وأنا بحضرته، وقيل له: أبو السائب في الدار، قال. يدخل، ثم أومأ إليّ بأن أتقدم إليه، فتقدمت ومدّ يده ليسارّني فقبلتها فمدّ يدي وقال: ليس بيننا سر، وإنما أردت أن يدخل أبو السائب فيراك تسارّني في مثل هذا المجلس الحافل، فلا يشكّ أنك معي في أمر من أمور الدولة، فيرهبك ويحشمك ويتوفر عليك ويكرمك، فإنه لا يحيء إلا بالرهبة، وهو يبغضك بزيادة عداوة كانت لأبيك، ولا يشتهي أن يكون له خلف مثلك، وأخذ يوصل معي في مثل هذا الفنّ من الحديث إلى أن دخل أبو السائب، فلما رآه في سرار وقف ولم يحبّ أن يجلس إلّا بعد مشاهدة الوزير له تقربا إليه وتلطفا في استمالة قلبه، فإنه كان إذ ذاك فاسد الرأي فيه، فقال الحاجب لأبي السائب:
يجلس قاضي القضاة، وسمعه الوزير فرفع رأسه وقال له: اجلس يا سيدي، وعاد إلى سراري وقال لي: هذه أشدّ من تلك، فامض إليه في عد فسترى ما يعاملك به، وقطع السرار وقال لي ظاهرا: قم فامض فيما أنفذتك فيه وعد إليّ الساعة بما تعمله،