على التسليم له جأشه، تخيل أبو محمد المهلبي أن أحدا لا يقدر على مساجلته ومجاراته، ولا يقوم لتتبعه بشيء من مطاعنه، وساء معزّ الدولة أن يرد عن حضرة عدوه رجل فلا يكون في مملكته أحد يماثله في صناعته ويساويه في منزلته، نهدت حينئذ متتبّعا عواره، ومتعقبا آثاره، ومطفيا ناره، ومهتكا أستاره، ومقلّما أظفاره، وناشرا مطاويه، وممزقا جلباب مساويه، متحينا أن نجتمع، وأجري وهو في مضمار يعرف فيه السابق من المسبوق، حتى إذا لم أجد ذلك قصدت موضعه الذي كان يحلّه في ربض حميد، فوافق مصيري إليه حضور جماعة تقرأ شيئا من شعره عليه، فحين أوذن بحضوري واستؤذن عليه لدخولي نهض عن مجلسه مسرعا، ووارى شخصه عني مستخفيا، فنزلت عن بغلة كانت تحتي ناجية وهو يراني نازلا عنها لانتهائي بها إلى أن حاذيته، فجلست في موضعه، وإذا تحته قطعة من زيلوبة مخلقة قد أكلتها الأيام وتعاورتها السنون فهي رسوم خافية وسلوك بادية، حتى إذا خرج إليّ نهضت إليه فوفيته حقّ السلام غير مشاح له في القيام، لأنه إنما اعتمد بنهوضه ألا ينهض لي عند موافاتي، وإذا هو قد لبس سبعة أقبية: كلّ قباء منها لون، وكان الوقت أحرّ أيام الصيف وأخلقها بتخفيف اللبس، فجلست وجلس، وأعرض عني ساعة لا يعيرني فيها طرفه ولا يسألني ما قصدت له، وقد كدت أتميّز غيظا، وأقبلت أسخّف رأيي في قصده، وأفنّد نفسي في التوجّه نحو مثله، ولوى عذاره عني مقبلا على تلك الزعنفة التي بين يديه: كلّ واحد يومىء إليه ويوحي بطرفه ويشير إلى مكاني بيده ويوقظه من سنة جهله، ويأبى إلا ازورارا ونفارا وجريا على شاكلة خلقه المشكلة، ثم رأى أن يثني رأسه إليّ، فوالله ما زادني على أن قال: أيش خبرك؟ قلت: أنا بخير لولا ما جنيت على نفسي من قصدك، وكلّفت قدمي في المصير إلى مثلك. ثم تحدرت عليه تحدر السيل إلى القرار وقلت له: أبن لي عافاك الله ممّ تيهك وخيلاؤك وعجبك؟ وما الذي يوجب ما أنت عليه من التجبّر والتنمّر؟ هل هاهنا نسب في الأبطح تبحبحت في بحبوحة الشرف وفرعت سماء المجد به؟ أم علم أصبحت علما يقع الايماء إليك فيه؟
هل أنت إلا وتد بقاع في شرّ البقاع وجفاء سيل بدفّاع؟ يا لله، استنّت الفصال حتى القرعى، وإني لأسمع جعجعة ولا أرى طحنا. فامتقع لونه عند سماع كلامي وعصب ريقه وجحظت عيناه وسقط في يده، وجعل يلين في الاعتذار لينا كاد يعطف عليه