للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم أتى بما يناسب المقام من التخويف بالموت والدعاء إلى الزهد في الدنيا، والإقصار عن اللذات والشهوات واتباع الهوى، وأورد أحاديث وآثارا تشاكل ذلك، حتى خشي الناس وبكوا وأعلنوا بالتوبة والاستغفار، وأخذ الناصر من ذلك بأوفر حظ، وقد علم أنه المقصود بالموعظة فبكى وندم على ما أفرط وفرّط، إلا أنه وجد على منذر لما قرّعه به، فشكا ذلك لولده الحكم بعد انصراف منذر فقال: والله لقد تعمدني منذر بخطبته وما عنى بها غيري، فأسرف وأفرط في تقريعي، ثم أقسم أن لا يصلّي خلفه صلاة الجمعة خاصة، فكان يصلي بقرطبة وراء أحمد بن مطرف صاحب الصلاة، وترك الصلاة بالزهراء، فقال له الحكم: ما الذي يمنعك من عزل منذر عن الصلاة بك والاستبدال به إذ كرهته، فزجره وانتهره وقال له: أمثل منذر بن سعيد في فضله وخيره وعلمه لا أمّ لك يعزل لإرضاء نفس ناكبة عن الرشد سالكة غير القصد؟! هذا ما لا يكون، وإني لأستحيي من الله أن لا أجعل بيني وبينه في صلاة الجمعة شفيعا مثل منذر في ورعه وصدقه، ولكنه أحرجني فأقسمت، ولوددت أني أجد سبيلا إلى كفارة يميني بملكي، بل يصلّي بالناس حياته وحياتنا إن شاء الله تعالى، فما أظننا نعتاض منه أبدا.

وكان منذر على متانته وصلابته حسن الخلق كثير الدعابة، فربما ساء ظنّ من لا يعرفه به لدعابته، فإذا رأى ما يخلّ بالدين قدر شعرة ثار ثورة الأسد الضاري وتبدلت بشاشته عبوسا.

ومرّ في رحلته بمصر فحضر يوما مجلس أبي جعفر النحاس وهو يملي أخبار الشعراء، فأملى شعرا لقيس مجنون بني عامر، وهو قوله «١» :

خليليّ هل بالشام عين حزينة ... تبكّي على نجد لعلّي أعينها

قد اسلمها الباكون إلا حمامة ... مطوقة باتت وبات قرينها

تجاوبها أخرى على خيزرانة ... يكاد يدنّيها من الأرض لينها

فقال له منذر، يا أبا جعفر ماذا باتا يصنعان، فقال له: وكيف تقول أنت يا اندلسي؟ فقلت له: بانت وبان قرينها، فسكت، قال منذر: وما زال يستثقلني بعد

<<  <  ج: ص:  >  >>