ويسلك ياقوت خطا واضحا بعد ذلك وإن كان متعرجا، ففي العام التالي (٦١٢)«١» نراه في مصر حيث يجدد العهد بكثير ممن عرفهم في سفرات سابقة، فيزور صديقه المرهف بن أسامة بن منقذ في بيته ويبيعه بعض الكتب، وكان عمر المرهف يومئذ اثنين وتسعين عاما، وكان قد أقعد فلا يقدر على الحركة إلا أنه كان صحيح العقل والنظر، يقرأ الخط الدقيق، لكن في سمعه بعض ثقل، وهذا ما كان يفرض على ياقوت أن يقتصد في حديثه معه «٢» ، ولم يفقد المرهف حتى في تلك السنّ شغفه بالكتب.
ولقي ياقوت أيضا الشريف أبا جعفر محمد بن عبد العزيز الإدريسي الحسني ونقل عنه خبر أستاذه الحسن بن الخطير وتاريخ وفاته «٣» .
وفي جمادى الأولى من العام نفسه غادر مصر عائدا إلى دمشق فوصلها في جمادى الثانية، وعاد يشغله أمر العسكرين أبي أحمد وأبي هلال، مثلما كان ذهنه في العام الفائت مشغولا بالجوهري: ترى أين يجد ترجمة لكلّ منهما؟ ولقي في دمشق الحافظ إسماعيل بن عبد الله الأنماطي، فذكر له ما أملاه السلفي في الترجمة لهما، وأعاره تلك الأملية «٤» ، ومن الشام توجه إلى بغداد في العام نفسه، وهنالك لقي الأديب قوام الدين الهاشمي «٥» ، ومن بغداد عاد إلى دمشق وقعد في بعض أسواقها، وجرّه الجدال مع أحد المتعصبين لعلي إلى أن ذكر عليا بما لا يساغ، فثار الناس عليه في دمشق حتى كادوا يقتلونه، ونمي خبره إلى المعتمد الموصلي والى دمشق، فأرسل في طلبه «٦» ، فغادر دمشق هاربا ووجهته حلب. ويرى القفطي أن سبب انحرافه عن علي قد يعود إلى التأثر بآراء الخوارج «٧» ، ولكن الأصوب أن يقال إنّ الغلوّ في حبّ عليّ يولّد غلوّا في الجهة المضادة، وبخاصة إذا احتدم الجدال، ونسي كل واحد من المتجادلين حدوده؛ وهذا لم يحدث لياقوت وحده، بل حدث لغيره من الناس.