والخروج عن الاسلام فاستحلّ قتله، فلما أجمع على قتله أنفذ إليه: أنت كنت عرفتنا عن الحكماء أنهم قالوا: لا يجب للملوك أن يغضبوا، فإذا غضبوا لا يجب لهم أن يرضوا، ولولا هذا لأطلقتك لسالف ذمّتك وخدمتك، ولكن اختر أيّ قتلة تحبّ أن أقتلك. قال: فاختار أن يطعم اللحم المكبّب ويسقى الشراب العتيق حتى يسكر ثم يفصد من يديه ويترك دمه يجري إلى أن يموت. فأمر المعتضد بذلك ففعل به، وظنّ أحمد أن دمه إذا انقطع مات في الحال بغير ألم، فانعكس ظنه. قال: وذلك أنه لما فصد نزف جميع دمه ثم بقيت معه من الحياة بقية فلم يمت وغلبت عليه الصفراء، فصار كالمجنون ينطح برأسه الحيطان ويصيح ويضجّ لفرط الآلام، ويعدو في مجلسه ساعات كثيرة إلى أن مات. فبلغ المعتضد ذلك فقال: هذا اختياره لنفسه، وأيش في الفساد بأكثر مما اختاره لنفسه من الرأي الذي جرّ عليه القتل. وكان المعتضد بالله يعدّد بعد قتله إياه ذنوبه إليه والأمور التي أنكرها عليه ليعلم أنه كان مستحقا لما عامله به:
فمنه: أنه كان لأحمد بن الطيب مجلس يجتمع إليه فيه أهل العلم يفاوضونه ويفاوضهم، فقال المعتضد: فكنت ربما سألته عن هذا المجلس وما يجري فيه فيخبرني. وسألته في بعض الأيام على عادتي فقال لي: يا أمير المؤمنين، مرّ بي أمس شيء ظريف، قلت: ما هو؟ قال: دخل إلي [في] جملة الناس رجل لا أعرفه، حسن الرّواء والهيئة، فتوسمت فيه أنه من أهل الفضل والمعرفة، فلم ينطق من أول المجلس إلى آخره، فلما انصرف من كان حاضرا لم ينصرف معهم، فقلت له: ألك حاجة؟ قال: نعم، تخلي لي نفسك، فأنفذت غلماني، فقال لي: أنا رجل قد أرسلني الله تعالى إلى هذا البشر، وقد بدأت بك لفضلك، وأمّلت أن أجد منك معونة على ما بعثت له، فقلت له: يا هذا أما علمت أني مسلم أعتقد أنه لا نبيّ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: علمت ذلك، وما جئتك إلا بأمر وبرهان، فهل لك في الوقوف على معجزتي؟ فأردت أن أعلم ما عنده فقلت له: هاتها، فقال: تحضر سطلا فيه ماء، فتقدمت باحضاره، فأخرج من كمه حجرين أبيضين صلدين كأشدّ ما يكون من الصخر، فقال: خذهما، فأخذتهما، فقال: ما هما؛ قلت: حجرين، فقال لي: رم أن تكسرهما، فلم أستطع لشدتهما وصلابتهما، فقلت: ما أستطيع،