فقال: ضعهما في السطل، فوضعتهما، وقال: غطّهما، فغطيتهما بمنديل، وأقبل عليّ يحدثني، فوجدته ممتعا كثير الحديث سديد العبارة حسن البيان صحيح العقل لا أنكر منه شيئا، فلما طال الأمر قلت له: فأيّ شيء بعد هذا؟ فقال: أخرج لي الحجرين، فكشفت عنهما، فطلبتهما فلم أجدهما، وتحيرت وقلت: ليس في السطل شيء، فقال لي: أنت تركتهما بيدك ولم أقرب منهما ولا لحظت السطل بعيني فضلا عن غيره، قلت: صدقت، قال: أما في ذلك إعجاز؟ فقلت له: بقيت عليك حال واحدة، قال: وما هي؟ قلت: أنك تجيء بحجر من عندي فتفعل به مثل هذا، فقال لي: وهكذا قال أصحاب موسى له: نريد أن تكون العصا من عندنا، فتوقفت عن جوابه لأتفكر فيه، فقام وقال لي: فكّر في أمرك إلى أن أعود إليك. وانصرف، وندمت بعد انصرافه على إفراجي عنه، وأمرت الغلمان بردّه وطلبه، فتفرقوا في كلّ طريق فما وجدوه. فقال المعتضد لراوي هذا الخبر: أتدري ما أراد أحمد بن الطيب، لعنه الله، بهذا الحديث؟ فقلت: لا يا أمير المؤمنين، فقال: إنما أراد أن سبيل موسى، عليه السلام، في العصا كسبيل هذا الرجل في الحجر، وأنّ جميع ذلك بحيلة، وكان ذلك من اكثر ما نقمه عليه.
قال محمد بن إسحاق النديم: أحمد بن الطيب هو أبو العباس أحمد بن محمد بن مروان السرخسي، ممن ينتمي إلى الكندي وعليه قرأ ومنه أخذ، وكان متفننا في علوم كثيرة من علوم القدماء والعرب، حسن المعرفة جيد القريحة بليغ اللسان مليح التصنيف. كان أولا معلما للمعتضد ثم نادمه وحظي به، وكان يفضي إليه بأسراره ويستشيره في أمور مملكته، وكان الغالب على بن الطيب علمه لا عقله.
وكان سبب قتله أن المعتضد أفضى إليه بسرّ يتعلّق بالقاسم بن عبيد الله وبدر غلام المعتضد فأذاعه بحيلة من القاسم مشهورة، فسلمه المعتضد إليهما فاستقصيا ماله ثم أودعاه المطامير، فلما كان في الوقت الذي خرج فيه المعتضد إلى فتح آمد فقتل أحمد بن عيسى بن شيخ، ثم أفلت من المطامير جماعة من الخوارج وغيرهم، وأمر المعتضد القاسم باتيان جماعة ممن يستحق القتل ليستريح من تعلّق القلب بهم، فأثبتهم ووقع المعتضد بقتلهم، فأدخل القاسم أحمد بن الطيب في جملتهم فيما