المريض رأيا وعقلا، وقد أتيتك مستشفيا فاشفني، وجرت بينهما مكاتبات كثيرة أمر في آخرها بإحضاره حلب، ووعده على الإسلام خيرا من بيت المال، فلما علم أبو العلاء أنه يحمل للقتل أو الإسلام سمّ نفسه ومات، وليته لما ادّعى العقل خرس ولم يقل مثل هذه الترهات التي يخلد إليها من لا حاجة لله تعالى فيه.
قال المؤلف: لما وقفت على هذه القصة اشتهيت أن أقف على صورة ما دار بينهما على وجهه حتى ظفرت بمجلّد لطيف وفيه عدّة رسائل من أبي نصر هبة الله بن موسى بن أبي عمران إلى المعري في هذا المعنى [١] ، انقطع الخطاب بينهما على المساكتة، ولم يذكر فيها ما يدلّ على ما ذهب إليه ابن الهبارية من سمّ المعريّ نفسه.
ونقلها على الوجه يطول فلخّصت منها الغرض دون تفاصح المعرّي وتشدّقه.
١- كتب ابن أبي عمران إليه:
الشيخ- أحسن الله توفيقه- الناطق بلسان الفضل والأدب، الذي ترك من عداه صامتا، مشهود له بهذه الفضيلة من كلّ من هو فوق البسيطة. غير أن الأدب الذي هو جالينوس طبّه، وعنده مفاتح غيبه، ليس مما يفيده كبير فائدة في معاشه أو معاده سوى الذكر السائر به الركبان، مما هو إذا تسامع المذكور به علم أنه له بمكانه الجمال والزينة ما دام حيا، فإذا رمت به يد المنون من ظهر الأرض إلى بطنها فلا بحسن ذكره ينتفع، ولا بقبحه يستضرّ. وإذ كانت الصورة هذه كان مستحيلا منه- أيده الله- مع وفور عقله أن جعل موادّه كلّها منصبّة إلى إحكام اللغة العربية والتقعّر فيها، واستيفاء أقسام ألفاظها ومعانيها، ووفر عمره على ما لا نتيجة لها منها، وترك نفسه المتوقدة نار ذكائها خلوا من النظر في شأن معاده وأن يمتار من علمه ما هو أنفع، فيمكث إذا ذهب الزبد جفاء من غيره، فإذا هو حرسه الله بمقتضى هذا الحكم مرتو من عذب مشرب هذا العلم، وإنما ليس يبوح به لضرب من ضروب السياسة.
والدليل على كونه ناظرا لمعاده سلوكه سبيل [شظف] العيش والتزهد، وعدوله عن الملاذّ من المأكول والمشروب والملبوس، وتعفّفه عن أن يجعل جوفه للحيوان
[١] طبعت هذه الرسائل غير مرة، وقد قمت بتحقيقها في الجزء الأول من رسائل أبي العلاء، بيروت ١٩٨٢ (ص: ٩٩ وما بعدها) .