للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في يوم شديد المطر لا يكاد أحد يمشي في طريق، وهو قاعد على قبر أحمد بن كليب زائرا له وقد تحيّن غفلة الناس في مثل ذلك الوقت.

وكان أحمد بن كليب قد أهدى إلى أسلم في أول أمره «كتاب الفصيح» وكتب عليه:

هذا كتاب الفصيح ... بكلّ لفظ مليح

وهبته لك طوعا ... كما وهبتك روحي

وقرأت في «كتاب الديارات» للخالدي [١] حكاية أعجبني أمر صاحبها، وأحببت أن يكون لها موضع من كتابي هذا، وكأن المثل يذكر بالمثل، ذكرتها عقيب خبر أحمد بن كليب فانهما خبران متقاربان، قال حدثني أبو الحسين يحيى بن الحسين الكندي الحراني الشاعر، قال حدثني أبو بكر أحمد بن محمد الصنوبري قال: كان بالرها ورّاق يقال له سعيد، وكان في دكانه مجلس كلّ أديب، وكان حسن الأدب والفهم يعمل شعرا رقيقا، وما كنّا نفارق دكانه أنا وأبو بكر المعوّج الشامي الشاعر وغيرنا من شعراء الشام وديار مصر، وكان لتاجر بالرها نصرانيّ من كبار تجارها ابن اسمه عيسى من أحسن الناس وجها وأحلاهم قدا وأظرفهم طبعا ومنطقا، وكان يجلس إلينا ويكتب عنا من أشعارنا، وجميعنا نحبّه ونميل إليه، وهو حينئذ صبي في الكتّاب، فعشقه سعيد الوراق عشقا مبرحا، وكان يعمل فيه الأشعار، فمن ذلك وقد جلس عنده في دكانه:

اجعل فؤادي دواة والمداد دمي ... وهاك فابر عظامي موضع القلم

وصيّر اللوح وجهي وامحه بيد ... فإن ذلك برء لي من السقم

ترى المعلّم لا يدري بمن كلفي ... وأنت أشهر في الصبيان من علم

ثم شاع بعشق الغلام في الرها خبره، فلما كبر وشارف الاحتلام [٢] أحبّ الرهبنة، وخاطب أباه وأمه في ذلك، والحّ عليهما حتى أجاباه وخرجا به إلى دير زكّى بنواحي الرقة، وهو في نهاية حسنه، فابتاعا له قلّاية، ورفعا إلى رأس الدير جملة من المال عنها، فأقام الغلام فيها. وضاقت على سعيد الوراق الدنيا بما رحبت، وأغلق


[١] وردت في تزيين الأسواق ٢: ٣٥٤.
[٢] م: الاشلاف؛ وما أثبته ورد في ر.

<<  <  ج: ص:  >  >>