دكانه وهجر إخوانه ولزم الدير مع الغلام، وسعيد في خلال ذلك يعمل فيه الأشعار، فمما عمل فيه وهو في الدير، وكان الغلام قد عمل شماسا:
يا جمّة قد علت غصنا من البان ... كأن أطرافها أطراف ريحان
قد قايسوا الشمس بالشّماس فاعترفوا ... بانما الشمس والشماس سيان
فقل لعيسى بعيسى كم هراق دما ... إنسان عينك من عين لانسان
ثم إن الرهبان أنكروا على الغلام كثرة إلمام سعيد به ونهوه عنه، وحرموه إن أدخله قلايته، وتوعدوه باخراجه من الدير إن لم يفعل، فأجابهم إلى ما ساموه من ذلك، فلما رأى سعيد امتناعه منه شقّ عليه وخضع للرهبان ورفق بهم فلم يجيبوه وقالوا: في هذا علينا إثم وعار، ونخاف السلطان، فكان إذا وافى الدير أغلقوا الباب في وجهه، ولم يدعوا الغلام يكلمه فاشتدّ وجده وزاد عشقه حتى صار إلى الجنون، فخرق ثيابه، وانصرف إلى داره فضرب جميع ما فيها بالنار، ولزم صحراء الدير وهو عريان يهيم ويعمل الأشعار ويبكي.
قال أبو بكر الصنوبري: ثم عبرت يوما أنا والمعوج الشامي من بستان بتنا فيه فرأيناه جالسا في ظلّ الدير وهو عريان، وقد طال شعره وتغيرت خلقته، فسلّمنا عليه وعذلناه وعنّفناه فقال: دعاني من هذا الوسواس، أتريان ذلك الطائر الذي على هيكل الدير- وأومأ بيده إلى طائر هناك- فقلنا: نعم، فقال: أنا وحقكما يا أخويّ أناشده منذ الغداة أن يسقط فاحمّله رسالة إلى عيسى، ثم التفت إليّ وقال: يا صنوبريّ معك ألواحك؟ قلت: نعم، قال: اكتب:
بدينك يا حمامة دير زكّى ... وبالانجيل عندك والصليب
قفي وتحمّلي عني سلاما ... إلى قمر على غصن رطيب
عليه مسوحه وأضاء فيها ... وكان البدر في حال المغيب
حماه جماعة الرهبان عني ... فقلبي ما يقرّ من الوجيب
وقالوا رابنا إلمام سعد ... ولا والله ما أنا بالمريب
وقولي سعدك المسكين يشكو ... لهيب جوى أحرّ من اللهيب