للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وحدث «١» إسحاق قال: أقام المأمون بعد قدومه عشرين شهرا لم يسمع حرفا من الأغاني، ثم كان أول من تغنّى بحضرته أبو عيسى ابن الرشيد، ثم واظب على السماع متستّرا متشبّها في أول أمره بالرشيد، فأقام على ذلك أربع حجج، ثم ظهر للندماء والمغنين. وكان حين أحبّ السماع سأل عني فجرّحت بحضرته، وقال الطاعن عليّ: ما يقول أمير المؤمنين في رجل يتيه على الخلافة؟ فقال: ما بقّى هذا شيئا من التيه إلا استعمله، فأمسك عن ذكري، وجفاني من كان يصلني لسوء رأيه الذي ظهر فيّ، فأضرّ ذلك بي، حتى جاءني علويه يوما فقال لي: أتأذن لي في ذكرك، فإنّا قد دعينا اليوم؟ فقلت: لا، ولكن غنّه بهذا الشعر، فإنه سيبعثه على أن يسألك لمن هذا؟ فإذا سألك انفتح لك ما تريد، فكان الجواب أسهل عليك من الابتداء، وألقيت عليه لحني في شعري:

يا سرحة الماء قد سدّت موارده ... أما إليك طريق غير مسدود

لحائم حام حتى لا حيام له ... محلأ عن طريق الماء مطرود

قال: فلما استقرّ بعلويه المجلس غنّاه الشعر الذي أمرته، فما عدا المأمون أن سمع الغناء حتى قال: ويلك يا علويه لمن هذا الشعر؟ قلت: يا سيدي لعبدك الذي جفوته واطّرحته لغير جرم، فقال إسحاق تعني؟ قلت: نعم، فقال: يحضرني الساعة، فجاءني رسوله فصرت إليه، فلما دخلت عليه قال: ادن فدنوت منه فرفع يديه مادّهما إليّ فأكببت عليه، فاحتضنني بيديه وأظهر من بري وإكرامي ما لو أظهر صديق مؤانس لصديق لسرّه.

وقال «٢» إسحاق غنّيت المأمون يوما:

لأحسن من قرع المثاني ورجعها ... تواتر صوت الثغر يقرع بالثغر

وسكر الهوى أروى لعظمي ومفصلي ... من الشرب بالكاسات من عاتق الخمر

فقال لي المأمون: ألا أخبرك بأطيب من ذلك وأحسن؟ الفراغ والشباب والجدة.

<<  <  ج: ص:  >  >>