قال «١» : وحدثني الجرباذقاني «٢» الكاتب أبو بكر، وكان كاتب داره، قال:
يبلغ من سخنة عين صاحبنا أنه لا يسكت عمّا لا يعرف، ولا يسالم نفسه فيما لا يفي به ولا يكمل له، ويظنّ أنه إن سكت فطن لنقصه، وإن احتال وموّه جاز ذلك وخفي واستتر، ولا يعلم أن ذلك الاحتيال طريق إلى الإغراء بمعرفة الحال وصدق القائل:
«كاد المريب يقول خذوني» ؛ قلت: وما الذي حداك على هذه المقدمة؟ قال قال لي في بعض هذه الأيام: ارفع حسابك فقد أخّرته وقصّرت فيه وانتهزت سكوتي وشغلي بأمر الملك وسياسة الأولياء والجند والرعايا والمدن، وما عليّ من أعباء الدولة وحفظ البيضة ومشارفة الأطراف النائية والدانية باللسان والقلم، والرأي والتدبير، والبسط والقبض، والتتبع والنفض، وما على قلبي من الفكر في الأمور «٣» الظاهرة والغامضة، وهذا باب لعمري مطمع وإمساكي عنه مغر بالفساد مولع، فبادر عافاك الله إلى عمل حساب بتفصيل باب باب، يبين فيه أمر داري وما يجري «٤» عليه أمر دخلي وخرجي. قلت له: هذا كلّه بسبب قوله: هات حسابك بما نراعيه؟ فقال: أي والله، ولقد كان أكثر من هذا ولقد اختصرته. قال أبو بكر: فتفردت أياما وحرّرت الحساب على قاعدته وأصله والرسم الذي هو معروف بين أهله، وحملته إليه، فأخذه من يدي وأمرّ عينيه فيه من غير تثبّت أو فحص أو مسألة، فحذف به إليّ وقال: أهذا حساب؟ أهذا كتاب؟ أهذا تحرير؟ أهذا تقرير؟ أهذا تفصيل؟ أهذا تحصيل؟ والله لولا أني ربّيتك في داري، وشغلت بتخريجك ليلي ونهاري، ولك حرمة الصبا، ويلزمني رعاية الابنا: لأطعمتك هذا الطومار، وأحرقتك بالنفط والقار، وأدّبت بك كلّ كاتب وحاسب، وجعلتك مثلة لكلّ شاهد وغائب: أمثلي يموّه عليه؟ ويطمع فيما لديه؟ وأنا خلقت الحسابة والكتابة، والله ما أنام ليلة إلّا وأحصّل في نفسي ارتفاع العراق، ودخل الآفاق. أغرّك مني أني أجررتك رسنك؟ وأخفيت قبيحك وأبديت حسنك؟ غيّر هذا الذي رفعت، واعرف قبل وبعد ما صنعت، واعلم أنك من الآخرة