قال أبو حيان «١» : وكنت بالريّ سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وابن عباد بها مع مؤيّد الدولة قد ورد في مهمات وحوائج، وعقد ابن عباد مجلس جدل، وكنا نبيت عنده في داره في باب شير «٢» ومعنا الضرير أبو العباس القاضي وأبو الحوراء «٣» البرقي وأبو عبد الله النحوي الزعفراني وجماعة من الغرباء، فرأى ليلة في مجلسه وجها غريبا صاحب مرقّعة فأحبّ أن يعرفه «٤» ويعرف ما عنده، وكان الشابّ من أهل سمرقند يعرف بأبي واقد الكرابيسي، فقال له: يا أخ انبسط واستأنس وتكلم، فلك منا جانب وطيء وشرب مريء، ولن ترى إلا الخير، بم تقرف، فقال: بدقاق قال: تدق ماذا؟ قال: أدقّ الخصم إذا زاغ عن سبيل الحق، فلما سمع هذا تنكّر وعجب لأنه فجىء ببديعة، فقال: دع هذا وتكلم، قال: أتكلم سائلا؟ ما بي والله حاجة إلى مسألة، أم أتكلّم مسؤولا؟ فو الله إني لأكسل عن الجواب، أم أتكلّم مقررا؟ فو الله إني لأكره أن أبدّد الدرّ في غير موضعه، وإني لكما قال الأول:
لقد عجمتني العاجمات فلم تجد ... هلوعا ولا لين المجسّة في العجم
وكاشفت أقواما فأبديت وصمهم ... وما للأعادي في قناتي من وصم
قال له: يا هذا ما مذهبك؟ قال: مذهبي ألا أقرّ على الضيم ولا أنام على الهون ولا أعطي صمتي لمن لم يكن وليّ نعمتي ولم يصل عصمته بعصمتي، قال:
هذا مذهب حسن، ومن ذا الذي يأتي الضيم طائعا ويركب الهون سامعا؟ ولكن ما نحلتك التي تنصرها؟ قال: نحلتي مطوّية في صدري لا أتقرّب بها إلى مخلوق، ولا أنادي عليها في سوق، ولا أعرضها على شاكّ، ولا أجادل فيها المؤمن، قال: فما تقول في القرآن؟ قال: ما أقول في كلام رب العالمين الذي يعجز عنه الخلق إذا أرادوا الاطلاع على غيبه، وبحثوا عن خافي سره وعجائب حكمته؟ فكيف إذا حاولوا مقابلته بمثله، وليس له مثل مظنون فضلا عن مثل متيقن؟ فقال له ابن عباد: