(وَأَمَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ مِنَ الْمَوْجُودِ إِلَّا الْمَحْسُوسَ وَيَظُنُّ أَنْ لَا شَيْءَ وَرَاءَ الْمَحْسُوسَاتِ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ، فَنَفْسُهُ تَنْفِرُ مِنْ ذِكْرِ مَا وَرَاءَ مَشْهُودِهِ أَوْ مَا يُشْبِهُ مَشْهُوُدَهُ،
وَقَلَّمَا تَجِدُ السَّبِيلَ إِلَى قَلْبِهِ إِذَا بَدَأْتَهُ بِدَعْوَاكَ، نَعَمْ قَدْ تُوصِلُكَ الْمُجَاهَدَةُ بَعْدَ مُرُورِ الزَّمَانِ فِي إِيرَادِ الْمُقَدِّمَاتِ الْبَعِيدَةِ، وَالْأَخْذِ بِهِ فِي الطُّرُقِ الْمُخْتَلِفَةِ، إِلَى تَقْرِيبِهِ مِمَّا تَطْلُبُ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَنْصُرَكَ الصَّبْرُ، أَوْ يُخْضِعَهُ الْقَهْرُ حَتَّى يَتِمَّ لَكَ مِنْهُ الْأَمْرُ، فَمِثْلُ هَذَا إِذَا عُرِضَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ نَبَا عَنْهُ سَمْعُهُ، وَلَمْ يَجْمُلْ مِنْ نَفْسِهِ وَقْعُهُ، فَكَيْفَ يَجِدُ فِيهِ هِدَايَةً أَوْ مُنْقِذًا مِنْ غَوَايَةٍ؟) .
(وَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ عِنْدَ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِسْلَامِ التَّقْلِيدِيِّ الَّذِي لَمْ يَأْخُذْ مِنَ النَّفْسِ إِلَّا مَا أَخَذَ اللَّفْظُ مِنَ اللِّسَانِ، وَلَيْسَ لَهُ أَثَرٌ فِي الْأَفْعَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ تَحْتَ نَظَرِ الْعَقْلِ، وَلَمْ يَلْحَظْهُ وُجْدَانُ الْقَلْبِ، بَلْ أُغْلِقَتْ عَلَيْهِ خِزَانَةُ الْوَهْمِ، وَمِثْلُ هَذَا الَّذِي يُسَمُّونَهُ إِيمَانًا لَا يُفِيدُ فِي إِعْدَادِ الْقَلْبِ لِلِاهْتِدَاءِ بِالْقُرْآنِ، لَمَّا كَانَ هَذَا شَأْنَهُمْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا بِبَيَانٍ يُشْعِرُ بِحَقِيقَةِ مَا أَرَادَهُ تَعَالَى مِنْ مَعْنَى الْإِيمَانِ) فَذَكَرَ عَلَامَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِهِدَايَةِ الْقُرْآنِ بِالْجُمَلِ الْآتِيَةِ، قَالَ: (وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ) إِلَخْ، الصَّلَاةُ: إِظْهَارُ الْحَاجَةِ وَافْتِقَارٌ إِلَى الْمَعْبُودِ بِالْقَوْلِ أَوِ الْعَمَلِ أَوْ كِلَيْهِمَا، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمُ ((الصَّلَاةُ مَعْنَاهَا الدُّعَاءُ)) لِأَنَّ إِظْهَارَ الْحَاجَةِ إِلَى الْعَظِيمِ الْكَرِيمِ وَلَوْ بِالْفِعْلِ فَقَطِ الْتِمَاسٌ لِلْحَاجَةِ وَاسْتِدْرَارٌ لِلنِّعْمَةِ، أَوْ طَلَبٌ لِدَفْعِ النِّقْمَةِ، أَرَأَيْتُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَقِفُونَ بَيْنَ أَيْدِي الْمُلُوكِ نَاكِسِي رُءُوسِهِمْ حَانِيِي ظُهُورِهِمْ، وَتَارَةً يَقَعُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ يُقَبِّلُونَهَا، أَلَيْسَ الْبَاعِثَ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ إِمَّا خَوْفٌ مِنْ عُقُوبَةٍ يَطْلُبُونَ بِهِ دَفْعَهَا، وَإِمَّا حَذَرٌ عَلَى نِعْمَةٍ يَتَوَقَّوْنَ سَلْبَهَا وَرَفْعَهَا، فَيَلْتَمِسُونَ بَقَاءَهَا وَيَرْجُونَ زِيَادَتَهَا وَنَمَاءَهَا؟ .
هَذِهِ الصَّلَاةُ كَانَتْ تُوجَدُ عِنْدَ بَعْضِ الْجَاهِلِيِّينَ وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُعْرَفُونَ بِالْحَنِيفِيِّينَ وَالْحُنَفَاءِ، وَعِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَكَتَبَ الْأُسْتَاذُ فِي وَصْفِهَا مَا نَصُّهُ:
(وَالصَّلَاةُ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَدْ ظَهَرَ فِي الْإِسْلَامِ فِي أَفْضَلِ أَشْكَالِهِ وَهُوَ تِلْكَ الصَّلَاةُ الَّتِي فَرَضَهَا اللهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ الْمُفْتَتَحَةَ بِالتَّكْبِيرِ وَالْمُخْتَتَمَةَ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ مِنْ أَفْضَلِ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْإِحْسَاسِ بِالْحَاجَةِ إِلَى الْمَعْبُودِ، وَشُعُورِ الْأَنْفُسِ بِعَظَمَتِهِ لَوْ أَقَامَهَا الْمُصَلُّونَ وَأَتَوْا بِهَا عَلَى وَجْهِهَا) وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ) وَلَمْ يَقُلْ: يُصَلُّونَ،
وَفَرْقٌ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَتَى حُدِّدَتْ بِكَيْفِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ يُقَالُ لِمَنْ يُؤَدِّيهَا بِتِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ: إِنَّهُ صَلَّى، وَإِنْ كَانَ عَمَلُهُ هَذَا خَلْوًا مِنْ مَعْنَى الصَّلَاةِ وَقِوَامِهَا الْمَقْصُودِ مِنَ الْهَيْئَةِ الظَّاهِرَةِ، فَاحْتِيجَ إِلَى لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ قِوَامُ الصَّلَاةِ، وَهُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ الْقُرْآنُ بِلَفْظِ الْإِقَامَةِ. وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِجَمِيعِ حُقُوقِهَا مِنْ كَمَالِ الطَّهَارَةِ وَاسْتِيفَاءِ الْأَرْكَانِ وَالسُّنَنِ. وَهُوَ لَا يَعْدُو
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute