للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَصْفَ الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ، وَإِنَّمَا قِوَامُ الصَّلَاةِ الَّذِي يَحْصُلُ بِالْإِقَامَةِ: هُوَ التَّوَجُّهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَالْخُشُوعُ الْحَقِيقِيُّ لَهُ، وَالْإِحْسَاسُ بِالْحَاجَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى.

وَكَتَبَ شَيْخُنَا عِنْدَ تَفْسِيرِ الصَّلَاةِ هُنَا بِمَا تَقَدَّمَ أَخْذًا عَنْهُ مَا نَصُّهُ:

(فَإِذَا خَلَتْ صُورَةُ الصَّلَاةِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَصْدُقْ عَلَى الْمُصَلِّي أَنَّهُ أَقَامَ الصَّلَاةَ، فَإِنَّهُ قَدْ هَدَمَهَا بِإِخْلَائِهَا مِنْ عِمَادِهَا، وَقَتَلَهَا بِسَلْبِهَا رُوحَهَا، وَمِنْ غَرِيبِ مَزَاعِمِ مَنْ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ: أَنَّ حُضُورَ الْقَلْبِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ وَاسْتِشْعَارِ الْخَشْيَةِ مِنْ أَصْعَبِ مَا تَتَجَشَّمُهُ النَّفْسُ، بَلْ يَكَادُ مُسْتَحِيلًا لِغَلَبَةِ الْخَوَاطِرِ عَلَى ذِهْنِ الْمُصَلِّي.

هَذَا - وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ هَذَا جُحُودًا لِمَعْنَى الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا عَرَضَ لَهُمْ هَذَا الْوَهْمُ الْبَاطِلُ مِنْ شِدَّةِ الْغَفْلَةِ وَاسْتِحْكَامِ الْعِلَّةِ، وَإِنِّي أَدُلُّهُمْ عَلَى طَرِيقَةٍ لَوْ أَخَذُوا بِهَا لَشُغِلُوا بِمَعْنَى الصَّلَاةِ حَتَّى عَنِ الصَّلَاةِ نَفْسِهَا، تِلْكَ الطَّرِيقَةُ: هِيَ أَلَّا يَنْطِقَ الْمُصَلِّي بِلَفْظٍ إِلَّا وَهُوَ يَسْتَوْرِدُ مَعْنَاهُ عَلَى ذِهْنِهِ، فَإِذَا قَالَ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) يَسْتَحْضِرُ مَعْنَى الْحَمْدِ وَإِضَافَتَهُ إِلَى ذَاتِ اللهِ تَعَالَى، مَعَ وَصْفِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ لِجَمِيعِ الْأَكْوَانِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ، وَإِذَا قَالَ مِثْلَ (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) تَصَوَّرَ مَعْنَى الْمُلْكِ وَتَعَلُّقَهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ يَوْمِ الْجَزَاءِ، وَهَكَذَا - فَإِذَا أَخَذَ الْمُصَلِّيَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَعَانِيَ مِنْ أَلْفَاظِهَا الَّتِي يَنْطِقُ بِهَا فَقَدْ أَقَامَ الصَّلَاةَ، أَمَّا وَهُوَ يَنْطِقُ وَلَا يَفْقَهُ، وَلَا يَلْحَظُ بِذِهْنِهِ مَعْنَى لَفْظِ مَا يَقُولُ، فَكَيْفَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُصَلِّي، فَضْلًا عَنْ أَنَّهُ يُقِيمُ الصَّلَاةَ؟) .

(وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) أَقُولُ: الرِّزْقُ فِي اللُّغَةِ: النَّصِيبُ وَالْعَطَاءُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، كَالْمَالِ وَالْوَلَدِ وَالْعِلْمِ وَالتَّقْوَى، وَيُخَصُّ بِأُمُورِ الْمَعَاشِ بِقَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ أَوْ لَفْظِيَّةٍ، وَقَالَ عُلَمَاءُ أَهْلِ السُّنَّةِ: الرِّزْقُ مَا انْتُفِعَ بِهِ حَلَالًا كَانَ أَوْ حَرَامًا، وَخَصَّهُ

الْمُعْتَزِلَةُ بِالْحَلَالِ، وَنَفَاقُ الشَّيْءِ: كَنَفَادِهِ، وَأَنْفَقَهُ: جَعَلَهُ يَنْفُقُ بِصَرْفِهِ وَإِخْرَاجِهِ مِنْ يَدِهِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ الْإِنْفَاقَ هُنَا يَشْمَلُ النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَى الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ وَذِي الْقُرْبَى وَصَدَقَةَ التَّطَوُّعِ، إِذِ الْآيَةُ نَزَلَتْ قَبْلَ فَرْضِ الزَّكَاةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ الْمَشْرُوعَةَ تَكُونُ بَعْضَ مَا يَمْلِكُ الْإِنْسَانُ لَا كُلَّ مَا يَمْلِكُ - فَهُوَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الِاقْتِصَادِ، وَالْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَظْهَرُ آيَاتِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ، وَقَالَ شَيْخُنَا شَارِحًا ذَلِكَ عَلَى طَرِيقَتِهِ بِمَا مِثَالُهُ:

هَذَا الْوَصْفُ مِنْ أَقْوَى أَمَارَاتِ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَأْتُونَ بِضُرُوبِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَمَتَى عَرَضَ لَهُمْ مَا يَقْتَضِي بَذْلَ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ لِلَّهِ تَعَالَى يُمْسِكُونَ وَلَا تَسْمَحُ أَنْفُسُهُمْ بِالْبَذْلِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِنْفَاقِ هُنَا مَا يَكُونُ عَلَى الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ، وَلَا مَا يُسَمُّونَهُ بِالْجُودِ وَالْكَرَمِ، كَقِرَى الضُّيُوفِ ابْتِغَاءَ عِوَضٍ كَالشُّهْرَةِ وَالْجَاهِ، أَوِ الْأُنْسِ بِالْأَصْحَابِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ آثَارِ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْإِنْفَاقُ النَّاشِئُ عَنْ شُعُورٍ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي رَزَقَهُ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ بِهِ، وَأَنَّ الْفَقِيرَ الْمَحْرُومَ عَبْدُ اللهِ مِثْلُهُ، وَأَنَّهُ حُرِمَ مِنْ سَعَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>