فَالْوَاجِبُ دَعْوَةُ النَّاسِ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوَّلًا، فَإِنْ أَجَابُوا فَالْوَاجِبُ أَمْرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، قَالَ: وَأَمَّا كَوْنُ هَذَا حِفَاظًا لِلْوَحْدَةِ وَمَانِعًا مِنَ الْفُرْقَةِ فَهُوَ أَنَّ الْأُمَّةَ إِذَا اجْتَمَعَتْ عَلَى هَذَا الْمَقْصِدِ الْعَالِي الشَّرِيفِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مُسَيْطِرَةً عَلَى الْأُمَمِ كُلِّهَا وَمُرَبِّيَةً لَهَا وَمُهَذِّبَةً لِنُفُوسِهَا فَلَا شَكَّ أَنَّ جَمِيعَ الْأَهْوَاءِ الشَّخْصِيَّةِ تَتَلَاشَى مِنْ بَيْنِهِمْ، فَإِذَا عَرَضَ الْحَسَدُ وَالْبَغْيُ لِأَحَدٍ مِنْ أَفْرَادِهِمْ تَذَكَّرُوا وَظِيفَتَهُمُ الْعَالِيَةَ الشَّرِيفَةَ الَّتِي لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالتَّعَاوُنِ وَالِاجْتِمَاعِ، فَأَزَالَتِ الذِّكْرَى مَا عَرَضَ، وَشَفَتِ النُّفُوسُ قَبْلَ تَمَكُّنِ الْمَرَضِ.
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ فِي الدَّعْوَةِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ: هِيَ دَعْوَةُ الْمُسْلِمِينَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا إِلَى الْخَيْرِ وَتَآمُرُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهِيهِمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْعُمُومُ فِيهَا ظَاهِرٌ أَيْضًا، وَلَهُ طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: الدَّعْوَةُ الْعَامَّةُ الْكُلِّيَّةُ - قَالَ: كَهَذَا الدَّرْسِ - بِبَيَانِ طُرُقِ الْخَيْرِ وَتَطْبِيقِ ذَلِكَ عَلَى أَحْوَالِ النَّاسِ، وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي النُّفُوسِ الَّتِي يَأْخُذُ كُلُّ سَامِعٍ مِنْهَا بِحَسَبِ حَالِهِ. وَإِنَّمَا يَقُومُ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ خَوَاصُّ الْأُمَّةِ الْعَارِفُونَ بِأَسْرَارِ الْأَحْكَامِ وَحِكْمَةِ الدِّينِ وَفِقْهِهِ، وَهُمُ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [٩: ١٢٢] وَمِنْ مَزَايَا هَؤُلَاءِ: تَطْبِيقُ أَحْكَامِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَهُمْ يَأْخُذُونَ مِنَ الْأَمْرِ الْعَامِّ بِالدَّعْوَةِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى مِقْدَارِ عِلْمِهِمْ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الدَّعْوَةُ الْجُزْئِيَّةُ الْخَاصَّةُ، وَهِيَ مَا يَكُونُ بَيْنَ الْأَفْرَادِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ، وَهُوَ مَا يَكُونُ بَيْنَ الْمُتَعَارِفِينَ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْخَيْرِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ عِنْدَ عُرُوضِهِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الشَّرِّ وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ التَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ يَأْخُذُ مِنَ الْفَرِيضَةِ الْعَامَّةِ بِقَدْرِهِ.
أَقُولُ: أَمَّا كَوْنُ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ حِفَاظًا لِلْوَحْدَةِ وَسِيَاجًا دُونَ الْفُرْقَةِ فَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ، فَلَوْ كَانَ أَهْلُ الْبَصِيرَةِ وَالْفِقْهِ الْحَقِيقِيِّ فِي الدِّينِ يُعَمِّمُونَ دَعْوَتَهُمْ وَإِرْشَادَهُمْ فِي الْأُمَّةِ وَيُوَاصِلُونَهَا لَكَانُوا مَوَارِدَ لِحَيَاتِهَا وَمَعَاقِدَ لِرَابِطَةِ وَحْدَتِهَا، وَكَذَلِكَ
عَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي، فَإِنَّ أَفْرَادَ الْأُمَّةِ إِذَا قَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِنَصِيحَةِ الْآخَرِ - دَعْوَةً وَأَمْرًا وَنَهْيًا - امْتَنَعَ فُشُوُّ الشَّرِّ وَالْمُنْكَرِ فِيهِمْ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُ الْخَيْرِ وَالْمَعْرُوفِ بَيْنَهُمْ. فَكَيْفَ تَجِدُ الْفُرْقَةُ مَنْفَذًا إِلَيْهِمْ؟ أَمْ كَيْفَ يَسْتَقِرُّ الْخِلَافُ فِي الدِّينِ بَيْنَهُمْ؟ وَنَاهِيكَ إِذَا قَامَ - كُلٌّ عَلَى طَرِيقِهِ الْمُسْتَقِيمِ - الْعُلَمَاءُ الْحُكَمَاءُ فِي مَسَاجِدِهِمْ وَمَعَابِدِهِمْ، وَجَمِيعُ الْأَفْرَادِ فِي مَنَازِلِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ وَمَعَاهِدِهِمْ.
وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّنَا نَرَى التَّصَدِّيَ لِنَصِيحَةِ الْأَفْرَادِ وَأَمْرِهِمْ وَنَهْيِهِمْ مَجْلَبَةً لِلْخِلَافِ وَالْفُرْقَةِ، لَا دَاعِيَةً إِلَى الْوِفَاقِ وَالْوَحْدَةِ، وَقَدْ أَوْرَدَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هَذِهِ الشُّبْهَةَ وَأَجَابَ عَنْهَا، فَقَالَ مَا مِثَالُهُ: كَيْفَ يَكُونُ التَّآمُرُ وَالتَّنَاهِي حَافِظًا لِلْوَحْدَةِ وَنَحْنُ نَرَى الْأَمْرَ بِالْعَكْسِ؟ نَرَى التَّنَاصُحَ سَبَبُ التَّخَاصُمِ وَالتَّدَابُرِ حَتَّى صَارَ مِنْ أَعْسَرِ الْأُمُورِ بَيْنَ الْإِخْوَانِ وَالْأَصْحَابِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute