أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: إِنَّكَ فَعَلْتَ كَذَا وَهُوَ مُنْكِرٌ فَارْجِعْ عَنْهُ، أَوْ إِنَّكَ قَادِرٌ عَلَى كَذَا مِنَ الْمَعْرُوفِ فَائْتِهِ، وَذَكَرَ عَنْ نَفْسِهِ - رَحِمَهُ اللهُ - أَنَّهُ صَارَ يَجِدُّ مِنَ الصَّعْبِ جِدًّا - حَتَّى مَعَ مَنْ يَعُدُّهُ صَنِيعَةً لَهُ أَوْ وَلَدًا أَوْ أَخًا - أَنْ يَنْصَحَهُ فِي الْأَمْرِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ خَشْيَةَ أَنْ يَنْفِرَ وَبِحَمْلِهِ ذَلِكَ عَلَى قَطْعِ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الرَّابِطَةِ. قَالَ: فَكَأَنَّ النُّصْحَ لَهُمْ مِنَ الْكُلِّيَّاتِ الَّتِي لَا يُوجَدُ لَهَا إِلَّا فَرْدٌ وَاحِدٌ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لِهَذَا النُّفُورِ مِنَ النُّصْحِ يَسْلُكُ مَعَ أَصْحَابِهِ وَالْمُتَّصِلِينَ بِهِ مَسْلَكَ الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ فِي الْغَالِبِ. وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا لَا يُعَدُّ حُجَّةً عَلَى اللهِ وَلَا شُبْهَةً عَلَى دِينِهِ ; لِأَنَّهُ مُنْتَهَى مَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْأُمَمُ مِنَ الْفَسَادِ وَالْبُعْدِ عَنِ الْخَيْرِ، وَاسْتِحْقَاقِ الْغَضَبِ الْإِلَهِيِّ.
وَتَكَادُ الْأُمَّةُ الَّتِي يَفْشُو هَذَا فِيهَا أَنْ تَكُونَ مِنَ الْأُمَمُ الَّتِي تُوُدِّعَ مِنْهَا، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَشْعُرُونَ بِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِالتَّأْلِيفِ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَإِنْقَاذِهِمْ مِنَ النَّارِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا قَدْ أَشَفَوْا عَلَيْهَا، وَمَعَ مَنْ يُشَارِكُونَهُمْ فِي شُعُورِهِمْ ذَاكَ وَيَتَّبِعُونَ سُنَّتَهُمْ فِي الِاهْتِدَاءِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ ; كَمَا وَقَعَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا، فَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالضِّيَاءُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَأَبُو دَاوُدَ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِزِيَادَةِ وَالْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ يَكُفُّ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ الْآنَ مِنْ سُوءِ الْحَالِ أَثَرُ تَفْرِيطٍ كَبِيرٍ تَمَادَى فِي زَمَنٍ طَوِيلٍ بَعْدَمَا عَظُمَ التَّسَاهُلُ فِي تَرْكِ التَّنَاصُحِ، وَبَطَلَ رَدُّ مَا يَتَنَازَعُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ - أَيْ إِلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - وَخَوَتِ الْقُلُوبُ مِنِ احْتِرَامِ الدِّينِ حَتَّى لَمْ يَعُدْ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الْإِرَادَةِ، بَلْ صَارَ كُلُّ شَخْصٍ أَسِيرَ هَوَاهُ. وَمَتَى أَمْسَى النَّاسُ هَكَذَا - لَا دِينَ وَلَا مُرُوءَةَ وَلَا أَدَبَ - فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ الطَّائِفَةِ مِنْهُمْ وَالْقَطِيعِ مِنَ الْمَعْزِ أَوِ الْبَقَرِ؟
عِنْدَ هَذَا سَأَلَ سَائِلٌ عَنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [٥: ١٠٥] فَأَجَابَ: إِنَّ هَذَا بَعْدَ الْقِيَامِ بِفَرِيضَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَيْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَضُرُّهُ ضَلَالُ غَيْرِهِ إِذَا هُوَ أَمَرَهُ وَنَهَاهُ ; فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُهْتَدِيًا مَعَ تَرْكِهِ لِهَذِهِ الْفَرِيضَةِ. ثُمَّ قَالَ: مِنَ الْعَجَبِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ اشْتَرَطُوا لِهَذِهِ الْفَرِيضَةِ شَرْطًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَمْ يُنْزِلْهُ فِي كِتَابِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَأْمُرُ وَلَا يَنْهَى إِلَّا مَنْ كَانَ مُؤْتَمِرًا وَمَنْهِيًّا، فَالْمُخْتَارُ عِنْدَهُ مَا حَقَّقَهُ الْإِمَامُ الْغَزَّالِيُّ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ، عَلَى أَنَّ الْإِمَامَيْنِ يَقُولَانِ بِوُجُوبِ كَوْنِ الْوَاعِظِ الْمُتَصَدِّي لِلْإِرْشَادِ وَالدَّعْوَةِ الْعَامَّةِ مُهْتَدِيًا عَامِلًا بِعِلْمِهِ مُتَّصِفًا بِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ.
وَقَدْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِمَنْعِ أُولَئِكَ الْجَاهِلِينَ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْصِبُونَ أَنْفُسَهُمْ لِلْوَعْظِ وَالْإِرْشَادِ مِنْ تَسَلُّقِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي فَرْضِيَّةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الِائْتِمَارُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute