للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَالِانْتِهَاءُ، بَلْ لِأَنَّ الْمُرْشِدَ الْعَامَّ مَحَلٌّ لِقُدْوَةِ الْعَوَامِّ، فَإِذَا كَانَ ضَالًّا يَكُونُ كَالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ إِثْمُهُ أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِ، فَهُوَ يُمْنَعُ مِنْهَا لِدَرْءِ الْمَفْسَدَةِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ.

فَحَاصِلُ رَأْيِهِ: أَنْ يُمْنَعَ مِنْ مَنْصِبِ الْإِرْشَادِ الَّذِي قَالَ إِنَّهُ خَاصٌّ بِالْعَارِفِينَ بِأَسْرَارِ الشَّرِيعَةِ وَفُقَهَاءِ النُّفُوسِ فِيهَا. وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَامِلًا بِعِلْمِهِ مُهْتَدِيًا بِمَا يَهْدِي إِلَيْهِ ; لِأَنَّ الْعِلْمَ الصَّحِيحَ يُوجِبُ الْعَمَلَ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ مِرَارًا، وَقُلْنَا إِنَّهُ رَأْيُهُ وَرَأْيُ الْغَزَّالِيِّ، وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ كُلِّ نَصِيحَةٍ وَأَيِّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ بَلْ يَأْمُرُهُ بِذَلِكَ وَإِنْ

لَبِسَهُ الْعَارُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّاعِرُ بِقَوْلِهِ:

لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ

وَلَيْسَ مُرَادُ الشَّاعِرِ نَهْيَ الْمُتَخَلِّقِ بِالْخُلُقِ السَّيِّءِ أَنْ يَأْمُرَ بِمِثْلِهِ، بَلْ مُرَادُهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّهْيِ وَالِانْتِهَاءِ. وَمِمَّا قَالَهُ الْغَزَّالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ يَزْنِي بِامْرَأَةٍ أَنْ يَأْمُرَهَا بِسَتْرِ بَدَنِهَا، أَوْ قَالَ وَجْهِهَا، وَإِلَّا كَانَ مُرْتَكِبًا لِمَعْصِيَةٍ زَائِدَةٍ عَنْ مَعْصِيَةِ الزِّنَا وَلَوَازِمِهِ، وَهِيَ مَعْصِيَةُ تَرْكِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَكَانَ يَقُولُ: يَجِبُ عَلَى مُدِيرِ الْكَأْسِ أَنْ يَنْهَى الْجُلَّاسَ.

وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ الَّتِي سُئِلَ عَنْهَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ قَدِيمَةٌ عَرَضَتْ لِلنَّاسِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ. فَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْمَسَانِيدِ، وَالتِّرْمِذِيُّ - وَصَحَّحَهُ - وَأَبُو يَعْلَى وَالْكَجِّيُّ مِنْ أَصْحَابِ السُّنَنِ، وَابْنُ حِبَّانَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ وَغَيْرُهُمْ، كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ حَازِمٍ قَالَ: " قَامَ أَبُو بَكْرٍ خَطِيبًا فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ وَإِنَّكُمْ تَضَعُونَهَا غَيْرَ مَوْضِعِهَا، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِذَا رَأَى النَّاسُ الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابٍ وَلِابْنِ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَعَدَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ سُمِّيَ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ فَوَضَعَهَا عَلَى الْمَجْلِسِ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْلِسُ عَلَيْهِ مِنْ مِنْبَرِهِ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَبِيبَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ يَتَأَوَّلُ هَذِهِ الْآيَةَ. . . . ثُمَّ فَسَّرَهَا، فَكَانَ تَفْسِيرُهُ لَنَا أَنْ قَالَ: نَعَمْ لَيْسَ مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِمُنْكَرٍ وَيُفْسَدُ فِيهِمْ بِقَبِيحٍ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ وَلَمْ يُنْكِرُوهُ إِلَّا حَقٌّ عَلَى اللهِ أَنْ يَعُمَّهُمْ بِالْعُقُوبَةِ جَمِيعًا ثُمَّ لَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ، ثُمَّ أَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ فَقَالَ: أَلَّا أَكُونَ سَمِعْتُهُ مِنَ الْحَبِيبِ صُمَّتَا ".

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَيَشْتَرِطُ بَعْضُهُمْ لِلْوُجُوبِ شَرْطًا آخَرَ، وَهُوَ الْأَمْنُ عَلَى النَّفْسِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولُوا: عَلَى الْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنِ الْمُنْكَرِ أَنْ يَدْعُوَ

بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>