للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الْخِطَابَ فِيهِ لِلْأُمَّةِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ إِذْنٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ حَاكِمُ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَنِهِ فَهُوَ تَشْرِيعٌ وَتَنْفِيذٌ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ: هُنَا يَخْلِطُونَ بَيْنَ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ الَّذِي جَاءَ فِي حَدِيثِ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ وَهَذَا شَيْءٌ آخَرُ غَيْرُ النَّهْيِ أَلْبَتَّةَ، فَإِنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ إِنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ فِعْلِهِ وَإِلَّا كَانَ رَفْعًا لِلْوَاقِعِ أَوْ تَحْصِيلًا لِلْحَاصِلِ، فَإِذَا رَأَيْتَ شَخْصًا يَغُشُّ السَّمْنَ - مَثَلًا - وَجَبَ عَلَيْكَ تَغْيِيرُ ذَلِكَ وَمَنْعُهُ مِنْهُ بِالْفِعْلِ إِنِ اسْتَطَعْتَ، فَالْقُدْرَةُ وَالِاسْتِطَاعَةُ هُنَا مَشْرُوطَةٌ بِالنَّصِّ، فَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْكَ التَّغْيِيرُ بِاللِّسَانِ وَهُوَ غَيْرُ خَاصٍّ بِنَهْيِ الْغَاشِّ وَوَعْظِهِ بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ رَفْعُ أَمْرِهِ إِلَى الْحَاكِمِ الَّذِي يَمْنَعُهُ بِقُدْرَةٍ فَوْقَ قُدْرَتِكَ. أَمَّا التَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَقْتِ الْفَاعِلِ وَعَدَمِ الرِّضَى بِفِعْلِهِ، وَلِلنَّهْيِ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ

وَأَسَالِيبُ مُتَعَدِّدَةٌ وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ.

قَالَ: نَعَمْ إِنَّ دَعْوَةَ الْأُمَّةِ غَيْرَهَا مِنَ الْأُمَمِ إِلَى الْخَيْرِ الَّذِي هِيَ عَلَيْهِ لَا يُطَالَبُ بِهَا كُلُّ فَرْدٍ بِالْفِعْلِ إِذْ لَا يَسْتَطِيعُ كُلُّ فَرْدٍ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ نُصْبَ عَيْنَيْهِ حَتَّى إِذَا عَنَّ لَهُ بِأَنْ لَقِيَ أَحَدًا مِنْ أَفْرَادِ تِلْكَ الْأُمَمِ دَعَاهُ، لَا أَنَّهُ يَنْقَطِعُ لِذَلِكَ وَيُسَافِرُ لِأَجْلِهِ، وَإِنَّمَا يَقُومُ بِهَذَا طَائِفَةٌ يُعِدُّونَ لَهُ عُدَّتَهُ، وَسَائِرُ الْأَفْرَادِ يَقُومُونَ بِهِ عِنْدَ الِاسْتِطَاعَةِ، فَهُوَ يُشْبِهُ فَرِيضَةَ الْحَجِّ، هِيَ فَرْضُ عَيْنٍ وَلَكِنْ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ، وَفَرِيضَةُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ آكَدُ مِنْ فَرِيضَةِ الْحَجِّ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا الِاسْتِطَاعَةُ لِأَنَّهَا مُسْتَطَاعَةٌ دَائِمًا. عِنْدَ هَذَا قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ قَطْعًا، فَرَدَّ عَلَيْهِ قَوْلَهُ وَضَرَبَ لَهُ مَثَلًا طَائِفَةَ الشِّيعَةِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا كَانَتِ الدَّعْوَةُ مُلْتَزَمَةً عِنْدَهُمْ صَارُوا كُلُّهُمْ دُعَاةً عِنْدَمَا يَعِنُّ لَهُمْ مَنْ يَدْعُونَهُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي بَيْرُوتَ احْتَاجَ إِلَى ظِئْرٍ لِإِرْضَاعِ بِنْتٍ لَهُ فَجِيءَ بِظِئْرٍ شِيعِيَّةٍ مِنَ الْمُتَأَوِّلَةِ فَكَانَتْ فِي الدَّارِ تَدْعُو النِّسَاءَ إِلَى مَذْهَبِهَا. وَقَالَ: إِنَّ رُعَاةَ الْإِبِلِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَانُوا يَدْعُونَ كُلَّ أَحَدٍ إِلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأُمَّةَ إِذَا أَرَادَتِ الدَّعْوَةَ لَا يَقِفُ فِي سَبِيلِهَا شَيْءٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: إِنَّ الْجَهْلَ لَيْسَ بِعُذْرٍ لِلْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا.

ثُمَّ قَالَ مَا حَاصِلُهُ: جُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ حَتْمٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ فِي ظَاهِرِهَا الْمُتَبَادِرِ، وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ [٥: ٧٩] وَكَذَلِكَ عَمَلُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -. وَكَوْنُ هَذَا حِفَاظًا لِلْأُمَّةِ وَحِرْزًا ظَاهِرٌ ; فَإِنَّ النَّاسَ إِذَا تَرَكُوا دَعْوَةَ الْخَيْرِ وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَلَى ارْتِكَابِ الْمُنْكَرَاتِ خَرَجُوا عَنْ مَعْنَى الْأُمَّةِ وَكَانُوا أَفْذَاذًا مُتَفَرِّقِينَ لَا جَامِعَةَ لَهُمْ ; وَلِهَذَا ضَرَبَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُدَاهِنِ مِثْلَ رَاكِبٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>