فِي سَفِينَةٍ يَطُوفُ عَلَى جَمَاعَةٍ مَعَهُ بِمَاءٍ وَكُلٌّ يَنْفِرُ مِمَّا مَعَهُ فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي فِي حَاجَةٍ إِلَيْهِ وَذَهَبَ يَنْقُرُ فِي السَّفِينَةِ فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدِهِ نَجَوْا وَنَجَا مَعَهُمْ وَإِلَّا هَلَكَ وَهَلَكُوا جَمِيعًا. فَفُشُوُّ الْمُنْكَرَاتِ مَهْلَكَةٌ لِلْأُمَّةِ
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [٨: ٢٥] فَلَا بُدَّ لِلْمَرْءِ فِي حِفْظِ نَفْسِهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ لَا سِيَّمَا أُمَّهَاتُ الْمُنْكَرَاتِ الْمُفْسِدَةِ لِلِاجْتِمَاعِ كَالْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ وَالْحَسَدِ وَالْغِشِّ، فَهَذَا لَيْسَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ الَّتِي يَتَوَاكَلُ فِيهَا النَّاسُ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ إِذْ لَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ هُنَا مَيِّتًا أَنْ يَنْتَظِرَ غُسْلَهُ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ بَلْ يَكْفِي أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ يُوجَدُ مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ إِذَا رَأَى مُنْكَرًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْهَى عَنْهُ وَلَا يَنْتَظِرُ غَيْرَهُ لِأَنَّهُ تَغْيِيرٌ عَلَى رَأْيِهِ.
أَقُولُ: وَيَظْهَرُ تَذْيِيلُ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَا لَا يَظْهَرُ عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ الْقَائِمِينَ بِمَا ذُكِرَ هُمُ الْفَائِزُونَ بِمَا أَعَدَّهُ اللهُ مِنَ السَّعَادَةِ لِأَهْلِ الْحَقِّ دُونَ سِوَاهُمْ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِالْقَائِمِينَ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ، وَفَسَّرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِالْفَلَاحِ فِي الدُّنْيَا، فَالْأُمَّةُ الَّتِي تَتْرُكُ ذَلِكَ تَكُونُ مِنَ الْخَاسِرِينَ لَا الْمُفْلِحِينَ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: بَقِيَ عَلَيْنَا بَيَانُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ " مَنْ " لِلتَّبْعِيضِ وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ طَائِفَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ تَقُومُ بِالدَّعْوَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْمُخَاطَبُ بِهَذَا جَمَاعَةُ الْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً، فَهُمُ الْمُكَلَّفُونَ أَنْ يَنْتَخِبُوا مِنْهُمْ أُمَّةً تَقُومُ بِهَذِهِ الْفَرِيضَةِ، فَهَاهُنَا فَرِيضَتَانِ إِحْدَاهُمَا عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَالثَّانِيَةُ عَلَى الْأُمَّةِ الَّتِي يَخْتَارُونَهَا لِلدَّعْوَةِ، وَلَا يُفْهَمُ مَعْنَى هَذَا حَقَّ الْفَهْمِ إِلَّا بِفَهْمِ مَعْنَى لَفْظِ الْأُمَّةِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الْجَمَاعَةَ - كَمَا قِيلَ - وَإِلَّا لَمَا اخْتِيرَ هَذَا اللَّفْظُ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْأُمَّةَ أَخَصُّ مِنَ الْجَمَاعَةِ، فَهِيَ الْجَمَاعَةُ الْمُؤَلَّفَةُ مِنْ أَفْرَادٍ لَهُمْ رَابِطَةٌ تَضُمُّهُمْ وَوَحْدَةٌ يَكُونُونَ بِهَا كَالْأَعْضَاءِ فِي بِنْيَةِ الشَّخْصِ، وَالْمُرَادُ بِكَوْنِ الْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً مُخَاطَبِينَ بِتَكْوِينِ هَذِهِ الْأُمَّةِ لِهَذَا الْعَمَلِ هُوَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ إِرَادَةٌ وَعَمَلٌ فِي إِيجَادِهَا وَإِسْعَادِهَا، وَمُرَاقَبَةِ سَيْرِهَا بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مِنْهَا خَطَأً أَوِ انْحِرَافًا أَرْجَعُوهَا إِلَى الصَّوَابِ، وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ لَا سِيَّمَا زَمَنُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ عَلَى هَذَا النَّهْجِ مِنَ الْمُرَاقَبَةِ لِلْقَائِمِينَ بِالْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ، حَتَّى كَانَ الصُّعْلُوكُ مِنْ رُعَاةِ الْإِبِلِ يَأْمُرُ مِثْلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ - وَيَنْهَاهُ فِيمَا يَرَى أَنَّهُ الصَّوَابُ،
وَلَا بِدْعَ فَالْخُلَفَاءُ عَلَى نَزَاهَتِهِمْ وَفَضْلِهِمْ لَيْسُوا بِمَعْصُومِينَ، وَقَدْ صَرَّحَ عُمَرُ بِخَطَئِهِ وَرَجَعَ عَنْ رَأْيِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ.
قَالَ: وَمِنَ الْعِبَرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: تَنْفِيذُ بِلَالٍ الْحَبَشِيِّ الْعَتِيقِ لِأَمْرِ عُمَرَ بِمُحَاسَبَةِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ سَيِّدِ بَنِي مَخْزُومٍ بَعْدَ تَبْلِيغِهِ عَزْلَهُ عَنْ قِيَادَةِ الْجَيْشِ بِالشَّامِ. وَذَكَرَ مُجْمَلَ الْقِصَّةِ، وَهِيَ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ عِنْدَمَا وَلِيَ الْخِلَافَةَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ وَهُوَ فِي جَيْشٍ عَلَى الشَّامِ يُوَلِّيهِ إِمَارَةَ الْجَيْشِ الْعَامَّةَ وَيَعْزِلُ خَالِدًا عَنْهَا، وَكَانَ الْجَيْشُ عَلَى حِصَارِ دِمَشْقَ أَوْ فِي الْيَرْمُوكِ (رِوَايَتَانِ) فَكَتَمَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute