أَبُو عُبَيْدَةَ الْأَمْرَ وَكَبُرَ عَلَيْهِ أَنْ يُظْهِرَهُ قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ لَهُمُ النَّصْرُ، وَلَمَّا أَبْطَأَ عَلَى عُمَرَ الْجَوَابَ كَتَبَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ ثَانِيَةً يَأْمُرُهُ فِيهِ بِأَنْ يَقْرَأَهُ عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِيهِ الْإِذْنُ بِأَنْ يُعْتَقَلَ خَالِدٌ بِعِمَامَتِهِ وَيُحَاسَبَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فِي إِمَارَتِهِ، فَهَابَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ لِشَرَفِهِ وَشَجَاعَتِهِ وَبَلَائِهِ فِي الْحَرْبِ وَحُبِّ الْجَيْشِ لَهُ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ قَامَ بِلَالٌ الْحَبَشِيُّ مِنْ فُقَرَاءِ الْمَوَالِي (الْعُتَقَاءِ) وَحَلَّ عِمَامَةَ خَالِدٍ وَاعْتَقَلَهُ بِهَا وَسَأَلَهُ عَمَّا أَمَرَ بِهِ عُمَرُ، فَخَضَعَ وَأَجَابَ. فَانْظُرُوا مَا فَعَلَ هَدْيُ الْإِسْلَامِ بِهَؤُلَاءِ الْكِرَامِ، يَقُومُ مَوْلًى مِنَ الْفُقَرَاءِ إِلَى السَّيِّدِ الْقُرَشِيِّ الْعَظِيمِ وَالْقَائِدِ الْكَبِيرِ فَيَعْقِلُهُ بِعِمَامَتِهِ عَلَى أَعْيُنِ الْمَلَأِ الَّذِينَ كَانَ أَمِيرَهُمْ وَقَائِدَهُمْ وَيُحَاسِبُهُ فَيُجِيبُهُ عَنْ كُلِّ مَا سَأَلَهُ، وَرُوِيَ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَطَاعَ وَأَجَابَ دَاعِيَ الْخَلِيفَةِ أَعَادَ إِلَيْهِ بِلَالٌ قَلَنْسُوَتَهُ وَعَمَّمَهُ بِيَدِهِ قَائِلًا: نَسْمَعُ وَنُطِيعُ وَنُفَخِّمُ مَوَالِيَنَا (جَمْعُ مَوْلًى وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى السَّيِّدِ) ، وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ عُمَرَ اسْتَحْضَرَ خَالِدًا إِلَى الْمَدِينَةِ وَاعْتَذَرَ لَهُ بَعْدَ الْعِتَابِ بِأَنَّهُ لَمْ يَعْزِلْهُ وَيَأْمُرْ فِيهِ بِمَا أَمَرَ لِرِيبَةٍ وَإِنَّمَا رَأَى أَنَّ النَّاسَ افْتَتَنُوا بِهِ وَخَافَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْتَتِنَ بِهِمْ، وَقِيلَ إِنَّهُ قَالَ لَهُ: خِفْتُ أَنْ يَعْبُدَكَ أَهْلُ الشَّامِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - مَا مِثَالُهُ مَعَ شَيْءٍ مِنَ التَّفْصِيلِ: إِذَا كَانَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ مُكَلَّفًا الدَّعْوَةَ إِلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ بِمُقْتَضَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، فَهُمْ مُكَلَّفُونَ بِمُقْتَضَى هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي أَنْ يَخْتَارُوا أُمَّةً مِنْهُمْ تَقُومُ بِهَذَا الْعَمَلِ لِأَجْلِ أَنْ تُتْقِنَهُ وَتَقْدِرَ عَلَى تَنْفِيذِهِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ بِطَبْعِهِ كَمَا كَانَ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ، فَإِقَامَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْخَاصَّةِ فَرْضُ عَيْنٍ
يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ مَعَ الْآخَرِينَ، وَلَا مَشَقَّةَ فِي هَذَا عَلَيْنَا، فَإِنَّهُ يَتَيَسَّرُ لِأَهْلِ كُلِّ قَرْيَةٍ أَنْ يَجْتَمِعُوا وَيَخْتَارُوا مِنْهُمْ مَنْ يَرَوْنَهُ أَهْلًا لِهَذَا الْعَمَلِ، وَعِبَارَةُ الْأُسْتَاذِ: وَيَخْتَارُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرَ، كَأَنَّهُ يُرِيدُ بِالْوَاحِدِ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَى مَنْ يَخْتَارُ مِنْ سَائِرِ الْقُرَى وَالْبِلَادِ لِأَجْلِ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي غَيْرِ بِلَادِهِ، أَوْ لِإِقَامَةِ بَعْضِ الْفَرَائِضِ وَالشَّعَائِرِ، أَوْ إِزَالَةِ بَعْضِ الْمُنْكَرَاتِ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِلَّا فَالْوَاجِبُ عَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ أَنْ يَخْتَارُوا جَمَاعَةً يَصِحُّ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِمْ لَفْظُ " الْأُمَّةِ " وَيَعْمَلُوا مَا تَعْمَلُهُ بِالِاتِّحَادِ وَالْقُوَّةِ لِيَتَوَلَّوْا إِقَامَةَ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ فِيهَا، كَمَا يَجِبُ ذَلِكَ فِي كُلِّ مُجْتَمَعٍ إِسْلَامِيٍّ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْحَوَاضِرِ أَوِ الْبَوَادِي، فَإِنَّ مَعْنَى الْأُمَّةِ يَدْخُلُ فِيهِ مَعْنَى الِارْتِبَاطِ وَالْوَحْدَةِ الَّتِي تَجْعَلُ أَفْرَادَهَا عَلَى اخْتِلَافِ وَظَائِفِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ - حَتَّى فِي إِقَامَةِ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ عِنْدَ تَشَعُّبِ الْأَعْمَالِ فِيهَا - كَأَنَّهُمْ شَخْصٌ وَاحِدٌ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ وَصَرَّحَ بِهِ الْأُسْتَاذُ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
قَالَ: وَهَذِهِ الْأُمَّةُ يَدْخُلُ فِي عَمَلِهَا الْأُمُورُ الْعَامَّةُ الَّتِي هِيَ مِنْ شَأْنِ الْحُكَّامِ وَأُمُورُ الْعِلْمِ وَطُرُقُ إِفَادَتِهِ وَنَشْرِهِ، وَتَقْرِيرُ الْأَحْكَامِ وَأُمُورُ الْعَامَّةِ الشَّخْصِيَّةِ، وَيُشْتَرَطُ فِيهَا الْعِلْمُ بِذَلِكَ، وَلِذَلِكَ جُعِلَتْ أُمَّةً، وَفِي مَعْنَى الْأُمَّةِ الْقُوَّةُ وَالِاتِّحَادُ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْقُوَّةِ وَالِاتِّحَادِ، فَالْأُمَّةُ الْمُتَّحِدَةُ لَا تُقْهَرُ وَلَا تُغْلَبُ مِنَ الْأَفْرَادِ، وَلَا تَعْتَذِرُ بِالضَّعْفِ يَوْمًا مَا، فَتَتْرُكُ مَا عُهِدَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute