فَلَا تَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ وَإِنَّمَا يَكُونُ مَظْهَرُهُ الْقَوْلَ أَحْيَانًا، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ - عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ - عَلَى حَظٍّ عَظِيمٍ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا بِسَلَامَةِ فِطْرَتِهِمْ وَذَكَاءِ قَرِيحَتِهِمْ وَبِمَا هَدَاهُمُ الْقُرْآنُ بِآيَاتِهِ وَالرَّسُولُ بِبَيَانِهِ وَسِيرَتِهِ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ - وَإِنْ لَمْ يَتَدَارَسُوهُ بِطَرِيقَةٍ صِنَاعِيَّةٍ - فَقَدْ كَانَ عِلْمُهُمْ بِهِ كَعِلْمِ الْوَاضِعِينَ لَهُ مِنَ الْحُكَمَاءِ أَوْ أَرْسَخُ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا يُؤْثَرُ عَنْهُمْ مِنَ الْحِكَمِ، وَمَا نَجَحُوا بِهِ فِي الدَّعْوَةِ، وَظَهَرُوا فِي مَوَاطِنِ الْحُجَّةِ، وَعِبَارَةُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: وَلَا تَظُنُّوا أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ إِذْ لَمْ يَكُونُوا يَدْرُسُونَهُ فِي الْكُتُبِ وَيَتَلَقَّوْنَهُ عَنِ الْمُعَلِّمِينَ، فَإِنَّكُمْ إِذَا قَرَأْتُمُ التَّارِيخَ وَعَرَفْتُمْ كَيْفَ كَانُوا يَتَجَالَدُونَ فِي الْحَرْبِ، وَيَتَجَادَلُونَ فِي مَوَاقِعِ الْخُطَبِ، بِمُجَرَّدِ الْفِطْرَةِ الَّتِي بَعُدْنَا عَنْهَا أَمْكَنَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا مَكَانَهُمْ مِنْهُ، نَعَمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ فَي كُلِّ زَمَنٍ يَحْتَاجُ إِلَى نَوْعٍ مِنْ طُرُقِ التَّعْلِيمِ غَيْرَ مَا كَانَ فِي الزَّمَنِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَالْحَقِيقَةُ الْوَاحِدَةُ قَدْ تَخْتَلِفُ طُرُقُ الْعِلْمِ بِهَا بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْأَحْوَالِ.
(٦) عِلْمُ الْأَخْلَاقِ وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يُبْحَثُ فِيهِ عَنِ الْفَضَائِلِ وَكَيْفِيَّةِ تَرْبِيَةِ الْمَرْءِ عَلَيْهَا، وَعَنِ الرَّذَائِلِ وَطُرُقِ تَوَقِّيهِ مِنْهَا وَهُوَ ضَرُورِيٌّ، وَمَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يُغْنِي بِشُهْرَتِهِ وَاسْتِفَاضَتِهِ عَنْ إِطَالَةِ الْكَلَامِ فِيهِ، وَقَدْ خَطَرَ بِبَالِي الْآنَ كَلِمَةُ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُورِدَهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي صَرَّحَتْ لِزَوْجِهَا بِأَنَّهَا لَا تُحِبُّهُ: " إِذَا كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ لَا تُحِبُّ الرَّجُلَ مِنَّا فَلَا تُخْبِرْهُ بِذَلِكَ، فَإِنَّ أَقَلَّ الْبُيُوتِ مَا يُبْنَى عَلَى الْمَحَبَّةِ، وَإِنَّمَا النَّاسُ يَتَعَاشَرُونَ بِالْحَسَبِ وَالْإِسْلَامِ " فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ الْجَلِيلَةُ لَا تَخْرُجُ بِالْبَدَاهَةِ هَكَذَا
إِلَّا مِنْ فَمِ حَكِيمٍ قَدِ انْطَوَى فِي نَفْسِهِ عِلْمُ الْأَخْلَاقِ وَعِلْمُ الِاجْتِمَاعِ أَيْضًا، وَوَقَفَ مَعَ ذَلِكَ عَلَى أَحْوَالِ النَّاسِ وَاخْتَبَرَهُمْ أَتَمَّ الِاخْتِبَارِ.
(٧) عِلْمُ الِاجْتِمَاعِ. وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ تَفْصِيلًا وَلَا إِجْمَالًا، وَلَعَلَّ سَبَبَ ذَلِكَ عَدَمُ وُجُودِ كُتُبٍ فِيهِ بِالْعَرَبِيَّةِ يَرْغَبُ طُلَّابُ الْأَزْهَرِ فِيهَا إِلَّا مَا فِي مُقَدِّمَةِ ابْنِ خَلْدُونَ، وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ أَحْوَالِ الْأُمَمِ فِي بَدَاوَتِهَا وَحَضَارَتِهَا وَأَسْبَابِ ضَعْفِهَا وَقُوَّتِهَا وَتَدَلِّيهَا وَتَرَقِّيهَا ; عَلَى أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ مُسْتَمَدٌّ مِنْ عِلْمِ التَّارِيخِ وَعِلْمِ الْأَخْلَاقِ، فَمَنْ كَانَ لَهُ حَظٌّ عَظِيمٌ مِنْهُمَا فَإِنَّهُ قَدْ يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ هَذَا الْعِلْمِ فِي بِنَاءِ الدَّعْوَةِ وَالْإِرْشَادِ عَلَى قَوَاعِدِ الْحِكْمَةِ وَالسَّدَادِ، وَإِنْ كَانَتْ دِرَاسَتُهُ مَزِيدَ كَمَالٍ فِيهِ وَفِي فَوَائِدِهِ الْعَظِيمَةِ. وَقَدْ ذَكَرْتُهُ لِلتَّرْغِيبِ فِيهِ وَحَثِّ أَهْلِ الِاسْتِعْدَادِ مِنَّا عَلَى التَّصْنِيفِ فِيهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِمَا صَنَّفَهُ الْغَرْبِيُّونَ عَلَى ذَلِكَ لِيَتَمَكَّنَ كُلُّ مُرِيدٍ لَهُ مِنْ تَنَاوُلِهِ ; إِذْ لَيْسَ كُلُّ مُطَّلِعٍ عَلَى التَّارِيخِ وَعِلْمِ الْأَخْلَاقِ أَهْلًا لِاسْتِنْبَاطِ قَوَاعِدِ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ مِنْهُمَا وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلْأَقَلِّينَ مِنَ الْعُقَلَاءِ وَهُمْ لَا يَسْتَغْنُونَ عَنِ الْوُقُوفِ عَلَى مَا اهْتَدَى إِلَيْهِ مَنْ كَتَبُوا فِي ذَلِكَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ مِنْ قَوَاعِدِ هَذَا الْعِلْمِ فَغَفَلَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَنْهُ وَلَمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute