للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الدَّعْوَةَ عَلَى أَصْلٍ صَحِيحٍ، وَيَعْرِفُونَ كَيْفَ تَنْهَضُ الْحُجَّةُ وَيَبْلُغُ الْكَلَامُ غَايَتَهُ مِنَ التَّأْثِيرِ، وَكَيْفَ يُمْكِنُ نَقْلُ هَؤُلَاءِ الْمَدْعُوِّينَ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ ; وَلِهَذَا كَانَ الْقُرْآنُ مَمْلُوءًا بِعِبَرِ التَّارِيخِ.

(٤) عِلْمُ تَقْوِيمِ الْبُلْدَانِ لِيُعِدَّ الدُّعَاةُ لِكُلِّ بِلَادٍ مِنْهَا عُدَّتَهَا إِذَا أَرَادُوا السَّفَرَ إِلَيْهَا، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - أَعْلَمَ أَهْلِ زَمَانِهِمْ بِالتَّارِيخِ وَمَا يُسَمَّى الْآنَ بِتَقْوِيمِ الْبُلْدَانِ وَبِالْجُغْرَافِيَا ; وَلِذَلِكَ أَقْدَمُوا عَلَى الْفُتُوحِ وَمُحَارَبَةِ الْأُمَمِ فَانْتَصَرُوا عَلَيْهِمْ بِالْعِلْمِ لَا بِالْجَهْلِ، فَلَوْ كَانُوا يَجْهَلُونَ مَسَالِكَ بِلَادِهِمْ وَطُرُقَهَا وَمَوَاقِعَ الْمِيَاهِ وَمَا يَصْلُحُ مَوْقِعًا لِلْقِتَالِ فِيهَا لَهَلَكُوا، وَكَانَ الْجَهْلُ أَوَّلَ أَسْبَابِ هَلَاكِهِمْ، وَمَنْ قَرَأَ مَا حُفِظَ مِنْ خُطَبِهِمْ وَكُتُبِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَتَرَاسَلُونَ بِهَا، وَمُحَاوَرَاتِهِمْ فِي تَدْبِيرِ الْأَعْمَالِ يَظْهَرُ لَهُ ذَلِكَ بِأَجْلَى بَيَانٍ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَنْفِرُ مِنَ التَّارِيخِ وَتَقْوِيمِ الْبُلْدَانِ الَّذِي هُوَ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِهِ، وَمَا أَضَرَّ هَؤُلَاءِ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَأُمَّتِهِمْ! ! فَقَدْ قَطَعُوا الصِّلَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُدْوَةِ الصَّالِحَةِ مِنْ سَلَفِهِمْ حَتَّى صَارَ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ لَا يَعْرِفُونَ مَبْدَأَ الْإِسْلَامِ وَلَا كَيْفِيَّةَ نَشْأَتِهِ وَلَا كَيْفَ انْتَسَبُوا إِلَيْهِ، فَالتَّارِيخُ يُعَرِّفُ الْإِنْسَانَ بِنَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُتَدَيِّنٌ إِنَّ كَانَ لَهُ دِينٌ، أَوْ مِنْ حَيْثُ هُوَ إِنْسَانٌ إِنَّ كَانَ مِنْ بَنِي الْإِنْسَانِ، وَمَا أَضَرَّ بِالْفِقْهِ شَيْءٌ كَالْجَهْلِ بِالتَّارِيخِ ; لِأَنَّنَا لَوْ حَفِظْنَا تَارِيخَ النَّاسِ - وَمِنْهُ عَادَاتُهُمْ وَعُرْفُهُمْ وَمَصَالِحُهُمْ فِي الْبِلَادِ الَّتِي كَانَ فِيهَا الْمُجْتَهِدُونَ الْوَاضِعُونَ لِهَذَا الْفِقْهِ - لَكُنَّا نَعْرِفُ مِنْ أَسْبَابِ خِلَافِهِمْ وَمَدَارِكِ أَقْوَالِهِمْ مَالَا نَعْرِفُهُ الْيَوْمَ، فَمَا كَانَ ذَلِكَ الْخِلَافُ جُزَافًا وَلَا عَبَثًا. أَلَمْ تَرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَضَعَ بَعْدَ مَجِيئِهِ إِلَى مِصْرَ مَذْهَبًا جَدِيدًا غَيْرَ الْمَذْهَبِ الْقَدِيمِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَيَّامَ لَمْ يَكُنْ خَبِيرًا بِغَيْرِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ؟ وَكَذَلِكَ كَانَ مَا خَالَفَ بِهِ أَبُو يُوسُفَ أُسْتَاذَهُ أَبَا حَنِيفَةَ مِمَّا يَرْجِعُ الْكَثِيرُ مِنْهُ إِلَى مَا اخْتَبَرَهُ مِنْ حَالِ النَّاسِ فِي مَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ وَعُرْفِهِمْ، فَبِاللهِ كَيْفَ يَنْتَسِبُ امْرُؤٌ إِلَى إِمَامٍ وَيَشْتَغِلُ بِعِلْمِ مَذْهَبِهِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ تَارِيخَهُ وَتَارِيخَ عَصْرِهِ! ! وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْجَاهِلَ بِالتَّارِيخِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ فَرْدًا مِنَ الْأُمَّةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ الْآمِرَةِ بِالْمَعْرُوفِ النَّاهِيَةِ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُرْجَى قَبُولُهُ.

(٥) عِلْمُ النَّفْسِ وَهُوَ يُسَاوِي عِلْمَ التَّارِيخِ فِي الْمَكَانَةِ وَالْفَائِدَةِ، أَيِ الْعِلْمَ الْبَاحِثَ عَنْ قُوَى النَّفْسِ وَتَصَرُّفِهَا فِي عُلُومِهَا وَتَأْثِيرِ عُلُومِهَا فِي أَعْمَالِهَا الْإِرَادِيَّةِ. مِثَالُ ذَلِكَ

أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ تَابِعًا لِلْعِلْمِ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ عَمَلَ كَذَا ضَارٌّ وَيَأْتُونَهُ، وَعَمَلَ كَذَا نَافِعٌ وَيَتْرُكُونَهُ (وَالْمُحَرَّمُ شَرْعًا كُلُّهُ ضَارٌّ وَالْحَلَالُ كُلُّهُ نَافِعٌ) فَمَا هُوَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ؟ وَهَلْ يُحْسِنُ دَعْوَةَ هَؤُلَاءِ إِلَى الْخَيْرِ وَإِقْنَاعَهُمْ بِتَرْكِ الشَّرِّ مَنْ لَا يَعْرِفُ لِمَاذَا تَرَكُوا الْخَيْرَ وَاقْتَرَفُوا الشَّرَّ؟ فَهَذِهِ الْمَعْرِفَةُ هِيَ مِنْ عِلْمِ النَّفْسِ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مِنَ الْعِلْمِ مَا يَكُونُ صِفَةً لِلنَّفْسِ حَاكِمَةً عَلَى إِرَادَتِهَا مُصَرِّفَةً لَهَا فِي أَعْمَالِهَا، وَمِنْهُ مَا هُوَ صُورَةٌ تَعْرِضُ لِلذِّهْنِ لَا أَثَرَ لَهَا فِي الْإِرَادَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>