التَّنْوِيهُ بِهِ، فَالْمُرَادُ بِالْأُمَّةِ الَّتِي تُقِيمُهَا الْأُمَّةُ لِذَلِكَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِالْجَمْعِيَّةِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَمِنْ أَعْمَالِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْأَخْذُ عَلَى أَيْدِي الظَّالِمِينَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ أَقْبَحُ الْمُنْكَرِ، وَالظَّالِمَ لَا يَكُونُ إِلَّا قَوِيًّا وَلِذَلِكَ اشْتُرِطَ فِي النَّاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ أَنْ يَكُونُوا أُمَّةً ; لِأَنَّ الْأُمَّةَ لَا تُخَالَفُ وَلَا تُغْلَبُ كَمَا تَقَدَّمَ، فَهِيَ الَّتِي تُقَوِّمُ عِوَجَ الْحُكُومَةِ، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ الْحُكُومَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَصْلِ الشُّورَى، وَهَذَا صَحِيحٌ وَالْآيَةُ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَيْهِ وَدَلَالَتُهَا أَقْوَى مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [٤٢: ٣٨] لِأَنَّ هَذَا وَصْفٌ خَبَرِيٌّ لِحَالِ طَائِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ أَكْثَرُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا الشَّيْءَ مَمْدُوحٌ فِي نَفْسِهِ مَحْمُودٌ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى -، وَأَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ قَوْلِهِ: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [٣: ١٥٩] فَإِنَّ أَمْرَ الرَّئِيسِ بِالْمُشَاوَرَةِ يَقْتَضِي وُجُوبَهُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ضَامِنٌ يَضْمَنُ امْتِثَالَهُ لِلْأَمْرِ فَمَاذَا يَكُونُ إِذَا هُوَ تَرَكَهُ؟ وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَإِنَّهَا تَفْرِضُ أَنْ يَكُونَ فِي النَّاسِ جَمَاعَةٌ مُتَّحِدُونَ أَقْوِيَاءُ يَتَوَلَّوْنَ الدَّعْوَةَ إِلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي الْحُكَّامِ وَالْمَحْكُومِينَ، وَلَا مَعْرُوفَ أَعْرَفُ مِنَ الْعَدْلِ وَلَا مُنْكَرَ أَنْكَرُ مِنَ الظُّلْمِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ " لَا بُدَّ أَنْ يَأْطُرُوهُمْ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا "
هَكَذَا نَقَلَ بَعْضُ الطُّلَّابِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ وَفَسَّرَهُ عَنْهُ بِأَنَّ مَعْنَاهُ يُفْنُوهُمْ أَيِ الظَّالِمِينَ وَيُبِيدُوهُمْ وَهُوَ كَمَا فِي كَنْزِ الْعُمَّالِ مَعْزُوٌّ إِلَى أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: يَا هَذَا اتَّقِ اللهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ، ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ. كَلَّا وَاللهِ لَتَأْمُرُّنَ بِالْمَعْرُوفِ ولَتَنْهُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ ثُمَّ يَلْعَنُكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ " وَعَنْهُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ: " لَمَّا وَقَعَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي الْمَعَاصِي فَنَهَتْهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا فَجَالَسُوهُمْ وَآكَلُوهُمْ وَشَارَبُوهُمْ فَضَرَبَ اللهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ
بِبَعْضٍ وَلَعَنَهُمْ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى تَأْطُرُوهُمْ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا " وَقَدْ أَوْرَدَ الْفِقْرَةَ الْأَخِيرَةَ مِنَ الرِّوَايَةِ الْأُولَى فِي لِسَانِ الْعَرَبِ بِضَمِيرِ الْمُفْرَدِ وَقَالَ: قَالَ أَبُو عَمْرٍو وَغَيْرُهُ قَوْلُهُ: " تَأْطُرُوهُ عَلَى الْحَقِّ " تَعْطِفُوهُ عَلَيْهِ. اهـ.
أَقُولُ: وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ قُوَّةُ الْمُسْلِمِينَ تَابِعَةً لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي تَقُومُ بِفَرِيضَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَهِيَ بِمَعْنَى مَجَالِسِ النُّوَّابِ فِي الْحُكُومَاتِ الْجُمْهُورِيَّةِ وَالْمَلَكِيَّةِ الْمُقَيَّدَةِ، فَكَأَنَّ الْآيَةَ بَيَانٌ لِكَوْنِ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شُورَى بَيْنَهُمْ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي مَعْنَى وَأَمْرُهُمْ شُورَى وَمَعْنَى وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ لَعَلَّهُ يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِيهِمَا كَذَا، وَإِلَّا فَكُلٌّ مِنَ النَّصَّيْنِ دَالٌّ عَلَى وُجُوبِ كَوْنِ حُكُومَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute