(الْوَجْهُ الثَّالِثُ) أَنَّ " كَانَ " هُنَا بِمَعْنَى صَارَ أَيْ صِرْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ وَهَذَا أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ.
إِذَا فُسِّرَتْ كَلِمَةُ كُنْتُمْ بِغَيْرِ مَا قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ كَانَتِ الْجُمْلَةُ شَهَادَةً مِنَ اللهِ - تَعَالَى - لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ إِلَى زَمَنِ نُزُولِهَا بِأَنَّهَا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ بِتِلْكَ الْمَزَايَا الثَّلَاثِ، وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ فِيهَا كَانَ لَهُ حُكْمُهُمْ لَا مَحَالَةَ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْخَيْرِيَّةَ لَا يَسْتَحِقُّهَا مَنْ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ وَاتِّبَاعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا الدَّعْوَى وَجَعْلِ الدِّينِ جِنْسِيَّةً لَهُمْ، بَلْ لَا يَسْتَحِقُّهَا مَنْ أَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَصَامَ رَمَضَانَ وَحَجَّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ وَالْتَزَمَ الْحَلَالَ وَاجْتَنَبَ الْحَرَامَ مَعَ الْإِخْلَاصِ الَّذِي هُوَ رُوحُ الْإِسْلَامِ إِلَّا بَعْدَ الْقِيَامِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَبِالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللهِ مَعَ اتِّقَاءِ التَّفَرُّقِ وَالْخِلَافِ فِي الدِّينِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: هَذَا الْوَصْفُ يَصْدُقُ عَلَى الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهِ أَوَّلًا، وَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ - عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ -، فَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا أَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللهُ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ فَكَانُوا بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا، وَهُمُ الَّذِينَ اعْتَصَمُوا بِحَبْلِ اللهِ وَلَمْ يَتَفَرَّقُوا فِي الدِّينِ فَيَذْهَبُوا فِيهِ مَذَاهِبَ تَتَعَصَّبُ لِكُلِّ مَذْهَبٍ شِيعَةٌ مِنْهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ لَا يَخَافُ فِي ذَلِكَ ضَعِيفٌ قَوِيًّا، وَلَا يَهَابُ صَغِيرٌ كَبِيرًا، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ ذَلِكَ الْإِيمَانَ الَّذِي اسْتَوْلَى عَلَى عُقُولِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ وَمَشَاعِرِهِمْ، وَمَلَكَ أَزِمَّةَ أَهْوَائِهِمْ حَتَّى كَانَ هُوَ الْمُسِيِّرَ لَهُمْ فِي عَامَّةِ أَحْوَالِهِمْ - ذَلِكَ الْإِيمَانُ الَّذِي بَيَّنَ - سُبْحَانَهُ - خَوَاصَّهُ وَصِفَاتَهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَظَهَرَتْ فَوَائِدُهُ وَآثَارُهُ فِي تَغْيِيرِ هَيْئَةِ الْأَرْضِ عَلَى أَيْدِيهِمْ - ذَلِكَ الْإِيمَانُ الَّذِي قَالَ - تَعَالَى - فِي أَهْلِهِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [٤٩: ١٥] وَقَالَ فِيهِمْ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا
وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [٨: ٢] إِلَى قَوْلِهِ: أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [٨: ٤] وَقَالَ فِيهِمْ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [٢٣: ١، ٢] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ الَّتِي تَحَقَّقَ مَعْنَاهَا وَمَعْنَى أَمْثَالِهَا فِي أُولَئِكَ الْأَصْحَابِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
أَقُولُ: هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَّا أَنَّ كَلِمَةَ " وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ " هِيَ مِنْ لَفْظِهِ يُرِيدُ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْعَالِيَةَ وَالْمَزَايَا الْكَامِلَةَ لِذَلِكَ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ لَمْ تَكُنْ لِكُلِّ مَنْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْمُحَدِّثُونَ اسْمَ الصَّحَابِيِّ كَالْأَعْرَابِيِّ الَّذِي يُسْلِمُ وَيَرَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَكَأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ [٤٨: ٢٩] فَهُمُ الَّذِينَ تَصْدُقَ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الصِّفَاتُ الْجَلِيلَةُ، وَأَفْضَلُهَا وَأَعْلَاهَا الْجِهَادُ وَالْهِجْرَةُ إِلَى الْمَدِينَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهَا وَالْإِيوَاءُ وَالنَّصْرُ مِنْ أَهْلِهَا ; لِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى - فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute