للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[٨: ٧٤، ٧٥] وَلَمْ يُهَاجِرْ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنَافِقٌ ; لِأَنَّ الْهِجْرَةَ كَانَتْ فِي زَمَنِ الضَّعْفِ وَإِنَّمَا يَكُونُ النِّفَاقُ فِي زَمَنِ الْقُوَّةِ، وَمُنَافِقُو الْمَدِينَةِ لَمْ يَنْصُرُوهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا كَانُوا يُخَذِّلُونَ وَيُثَبِّطُونَ الصَّادِقِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَيُغْرُونَ الْأَعْدَاءَ بِهِمْ، قَالَ - تَعَالَى - فِيهِمْ: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَارِهُونَ [٩: ٤٧، ٤٨] . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ، وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهَا فِي خَاصَّةِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ صَنَعَ مِثْلَ صَنِيعِهِمْ.

فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ بَعْضَ أُولَئِكَ الصَّحَابَةِ الصَّادِقِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ قَدْ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا فِي الْفِتْنَةِ الَّتِي أَثَارَهَا مُعَاوِيَةُ عَلَى عَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَهَلْ خَرَجَتِ الْأُمَّةُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهَا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ:

(أَحَدُهَا) أَنَّ ذَلِكَ الْخِلَافَ وَالتَّفَرُّقَ لَمْ يَكُنْ فِي الدِّينِ وَإِنَّمَا كَانَ فِي أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهِ اعْتِقَادُ أَهْلِ الْفَرِيقَيْنِ، وَلَمْ يَحْدُثْ بِهِ مَذْهَبٌ جَدِيدٌ فِي الْإِسْلَامِ، فَالدِّينُ نَفْسُهُ لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ الْخِلَافِ.

(ثَانِيهَا) أَنَّ مُعَاوِيَةَ الَّذِي أَثَارَ ذَلِكَ التَّفَرُّقَ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ ; فَإِنَّهُ أَسْلَمَ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ الَّذِي انْقَطَعَتْ بِهِ الْهِجْرَةُ، أَوْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ

كَمَا قَالَ الْوَاقِدِيُّ: إِنَّهُ أَسْلَمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَنَّهُ كَانَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ مُسْلِمًا. قَالَ الْحَافِظُ فِي الْإِصَابَةِ بَعْدَ نَقْلِ قَوْلِ الْوَاقِدِيِّ: وَهَذَا يُعَارِضُهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ: " فَعَلْنَاهَا وَهَذَا يَوْمَئِذٍ كَافِرٌ ": يَعْنِي مُعَاوِيَةَ. وَسَوَاءٌ صَحَّ قَوْلُ الْوَاقِدِيِّ أَوْ لَا فَمُعَاوِيَةُ لَمْ يُهَاجِرْ، وَنَقَلَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَقَدْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَلَكِنِّي كُنْتُ أَخَافُ أَنْ أَخْرُجَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِأَنَّ أُمِّي كَانَتْ تَقُولُ: إِنْ خَرَجْتَ قَطَعْنَا عَنْكَ الْقُوتَ، وَمَا كَانَ مَعَ مُعَاوِيَةَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ إِلَّا قَلِيلٌ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ يُطَالِبُ بِحَقٍّ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَنَالَهُ - وَهُوَ الْقِصَاصُ مِنْ قَاتِلِي عُثْمَانَ - ثُمَّ يَدْخُلُ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ مِنْ مُبَايَعَةِ عَلِيٍّ.

(ثَالِثُهَا) قَدْ عَرَفَ الْمُطَّلِعُونَ عَلَى التَّارِيخِ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يُفَرِّطُوا فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مَا وُجِدُوا، وَإِنَّمَا ضَعُفَ ذَلِكَ بَعْدَ انْقِرَاضِ أَكْثَرِهِمْ، وَهَذَانِ الرُّكْنَانِ هُمَا بَعْدَ الْإِيمَانِ أَعْظَمُ أَرْكَانِ خَيْرِيَّةِ الْأُمَّةِ، فَمَا عَرَضَ مِنَ التَّفَرُّقِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْخِلَافِ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ زَالَ بَعْدَ قَتْلِ عَلِيٍّ ; لِأَنَّ التَّفَرُّقَ وَالْخِلَافَ لَا يَدُومُ فِي أُمَّةٍ تُقِيمُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ وَلَوْ بِغَيْرِ

<<  <  ج: ص:  >  >>