للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

نِظَامٍ، وَلَوْ كَانَ لَهُمَا نِظَامٌ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ لَمَا وَقَعَ كُلُّ ذَلِكَ الَّذِي وَقَعَ. أَلَمْ يَهْدِ لَكَ كَيْفَ كَانَ النَّاسُ يُغْلِظُونَ لِمُعَاوِيَةَ فِي إِنْكَارِ مَا يُنْكِرُونَهُ عَلَيْهِ حَتَّى غَيْرِ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ؟

الْحَقَّ أَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ مَا فَتِئَتْ خَيْرَ أُمَّةٍ خَرَجَتْ لِلنَّاسِ حَتَّى تَرَكَتِ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمَا تَرَكَتْهُمَا رَغْبَةً عَنْهُمَا أَوْ تَهَاوُنًا بِأَمْرِ اللهِ - تَعَالَى - بِإِقَامَتِهِمَا، بَلْ مُكْرَهَةً بِاسْتِبْدَادِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَمَنْ سَارَ عَلَى طَرِيقِهِمْ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، وَقَدْ كَانَ أَوَّلَ أَمِيرٍ مِنْهُمْ أَظْهَرَ هَذِهِ الْفِتْنَةَ جَهْرًا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ إِذْ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: " مَنْ قَالَ لِي اتَّقِ اللهَ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ " فَقَدْ كَانَتْ شَجَرَةُ بَنِي مَرْوَانَ الْخَبِيثَةِ هِيَ الَّتِي سَنَّتْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ سُنَّةَ الِاسْتِبْدَادِ، فَمَا زَالَ يَعْظُمُ وَيَتَفَاقَمُ حَتَّى سَلَبَ الْأُمَّةَ أَفْضَلَ مَزَايَاهَا فِي دِينِهَا وَدُنْيَاهَا بَعْدَ الْإِيمَانِ.

وَقَدْ بَيَّنَ (الْفَخْرُ الرَّازِيُّ) فِي تَفْسِيرِهِ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ وَصْفِ الْأُمَّةِ هُنَا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِيمَانِ عِلَّةً لِكَوْنِهَا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ فَقَالَ:

" وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُسْتَأْنَفٌ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ بَيَانُ عِلَّةِ تِلْكَ الْخَيْرِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ: زَيْدٌ كَرِيمٌ يُطْعِمُ النَّاسَ وَيَكْسُوهُمْ وَيَقُومُ بِمَا يُصْلِحُهُمْ. وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ

أَنَّهُ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ ذِكْرَ الْحُكْمِ مَقْرُونًا بِالْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ لَهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِذَلِكَ الْوَصْفِ، فَهَاهُنَا حَكَمَ - تَعَالَى - بِثُبُوتِ وَصْفِ الْخَيْرِيَّةِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ هَذَا الْحُكْمَ وَهَذِهِ الطَّاعَاتِ ; أَعْنِي الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْإِيمَانِ، فَوَجَبَ كَوْنُ تِلْكَ الْخَيْرِيَّةِ مُعَلَّلَةً بِهَذِهِ الْعِبَادَاتِ " ثُمَّ أَوْرَدَ سُؤَالًا وَذَكَرَ الْجَوَابَ عَنْهُ فَقَالَ:

" مِنْ أَيِّ وَجْهٍ يَقْتَضِي الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْإِيمَانُ بِاللهِ كَوْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ خَيْرَ الْأُمَمِ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ كَانَتْ حَاصِلَةً فِي سَائِرِ الْأُمَمِ؟ وَالْجَوَابُ: قَالَ الْقَفَّالُ: تَفْضِيلُهُمْ عَلَى الْأُمَمِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُمْ إِنَّمَا حَصَلَ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ بِآكَدِ الْوُجُوهِ وَهُوَ الْقِتَالُ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ قَدْ يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَبِاللِّسَانِ وَبِالْيَدِ وَأَقْوَاهَا مَا يَكُونُ بِالْقِتَالِ لِأَنَّهُ إِلْقَاءُ النَّفْسِ فِي خَطَرِ الْقَتْلِ، وَأَعْرَفُ الْمَعْرُوفَاتِ الدِّينُ الْحَقُّ وَالْإِيمَانُ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ، وَأَنْكَرُ الْمُنْكَرَاتِ الْكُفْرُ بِاللهِ، فَكَانَ الْجِهَادُ فِي الدِّينِ مَحْمَلًا لِأَعْظَمِ الْمَضَارِّ لِغَرَضِ إِيصَالِ الْغَيْرِ إِلَى أَعْظَمِ الْمَنَافِعِ وَتَخْلِيصِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَضَارِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجِهَادُ أَعْظَمَ الْعِبَادَاتِ. وَلَمَّا كَانَ أَمْرُ الْجِهَادِ فِي شَرْعِنَا أَقْوَى مِنْهُ فِي سَائِرِ الشَّرَائِعِ لَا جَرَمَ صَارَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِفَضْلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ. وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَهُ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَيُقِرُّوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَتُقَاتِلُونَهُمْ عَلَيْهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ أَعْظَمُ الْمَعْرُوفِ، وَالتَّكْذِيبُ هُوَ أَنْكَرُ الْمُنْكَرِ.

ثُمَّ قَالَ الْقَفَّالُ: (فَائِدَةٌ) الْقِتَالُ عَلَى الدِّينِ لَا يُنْكِرُهُ مُنْصِفٌ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يُحِبُّونَ أَدْيَانَهُمْ بِسَبَبِ الْإِلْفِ وَالْعَادَةِ، وَلَا يَتَأَمَّلُونَ فِي الدَّلَائِلِ الَّتِي تُورَدُ عَلَيْهِمْ فَإِذَا أُكْرِهَ [الْمَرْءُ]

<<  <  ج: ص:  >  >>