للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْمُنَافِقُونَ رِيَاءً أَوْ تَقِيَّةً، وَقَدْ خَابَ الْفَرِيقَانِ وَخَسِرُوا بِنَصْرِ اللهِ نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَبِفَضِيحَةِ الْمُنَافِقِينَ فِي سُورَةِ (بَرَاءَةَ) . وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ يَخُصُّ هَذَا الْإِنْفَاقَ بِمَا يَفْعَلُهُ الْكَافِرُ عَلَى سَبِيلِ الْبِرِّ وَهُوَ لَا يُفِيدُهُ فِي الْآخِرَةِ شَيْئًا، إِذِ الْإِيمَانُ شَرْطٌ لِقَبُولِ الْأَعْمَالِ وَنَفْعِهَا فِي تِلْكَ الدَّارِ.

أَمَّا وَصْفُ الْقَوْمِ الَّذِينَ أَهْلَكَتِ الرِّيحُ حَرْثَهُمْ بِكَوْنِهِمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَقَدْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ مُبَيِّنًا نُكْتَتَهُ مَا نَصُّهُ: " فَأُهْلِكُ عُقُوبَةً لَهُمْ لِأَنَّ الْإِهْلَاكَ عَنْ سُخْطٍ أَشَدُّ وَأَبْلَغُ " وَفِي هَامِشِهِ كَتَبَ بِإِمْلَائِهِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ النُّكْتَةَ فِي ذَلِكَ هِيَ إِفَادَةُ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُنْفِقِينَ لَا يَسْتَفِيدُونَ شَيْئًا مِنْهُ ; لِأَنَّ حَرْثَ الْكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ هُوَ الَّذِي يَذْهَبُ عَلَى الْكُلِّيَّةِ إِذْ لَا مَنْفَعَةَ لَهُمْ فِيهِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، فَأَمَّا حَرْثُ الْمُسْلِمِ الْمُؤْمِنِ فَلَا يَذْهَبُ عَلَى الْكُلِّيَّةِ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَذْهَبُ صُورَةً إِلَّا أَنَّهُ لَا يَذْهَبُ مَعْنًى لِمَا فِيهِ مِنْ حُصُولِ أَغْرَاضٍ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَالثَّوَابِ بِالصَّبْرِ عَلَى الذَّهَابِ " اهـ.

وَأَقُولُ: إِنَّ الْوَصْفَ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْجَوَائِحَ قَدْ تَنْزِلُ بِأَمْوَالِ النَّاسِ مِنْ حَرْثٍ وَنَسْلٍ عُقُوبَةً عَلَى ذُنُوبٍ اقْتَرَفُوهَا وَلَكِنَّهُ لَيْسَ نَصًّا فِي ذَلِكَ لِمَا عَلِمْتَ مِنْ تَعْلِيلِ الْكَشَّافِ آنِفًا، وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ مِنَ الْأَسْبَابِ الطَّبِيعِيَّةِ لَهَا لِأَنَّهُ لَا يُسْتَنْكَرُ عَلَى الْبَارِئِ الْحَكِيمِ الَّذِي وَضَعَ سُنَنَ ارْتِبَاطِ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبِّبَاتِ فِي عَالَمِ الْحِسِّ أَنْ يُوَفِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سُنَنِهِ الْخَفِيَّةِ فِي إِقَامَةِ مِيزَانِ الْقِسْطِ فِي الْبَشَرِ لِهِدَايَتِهِمْ إِلَى مَا بِهِ كَمَالُهُمْ مِنْ طَرِيقِ الْعُلُومِ الْحِسِّيَّةِ الَّتِي يَسْتَفِيدُونَهَا مِنَ النَّظَرِ وَالتَّجْرِبَةِ، وَمِنْ طَرِيقِ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ الَّذِي يُرْشِدُ إِلَيْهِ الْوَحْيُ الْإِلَهِيُّ، وَيُسَمَّى مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُدُوثُ الشَّيْءِ سَبَبًا لَهُ وَمَا قَارَنَ

الْمُسَبِّبَ مِنْ نَفْعِ الْعِبَادِ وَضُرِّ بَعْضِهِمْ بِهِ حِكْمَةً لَهُ، وَكُلٌّ مِنْ سَبَبِ الشَّيْءِ وَحِكْمَتِهِ أَوْ حُكْمِهِ مَقْصُودٌ لِلْخَالِقِ الْحَكِيمِ.

رَأَيْنَا فِي مَذْهَبِ (دَارْوِنَ) الْعَالِمِ الطَّبِيعِيِّ الشَّهِيرِ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي أَلْوَانِ الثِّمَارِ كَالْمِشْمِشِ وَالْخَوْخِ وَالْبُرْقُوقِ هِيَ إِغْرَاءُ أَكَلَتِهَا مِنَ الطَّيْرِ وَالنَّاسِ بِهَا لِتَأْكُلَهَا فَيَسْقُطُ عَجَمُهَا عَلَى الْأَرْضِ لِيَنْبُتَ فِيهَا بِسُهُولَةٍ فَيَحْفَظَ نَوْعَهُ بِتَجَدُّدِ النَّسْلِ أَوْ مَا هَذَا حَاصِلُهُ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ لِتِلْكَ الْأَلْوَانِ أَسْبَابًا طَبِيعِيَّةً تَتَعَلَّقُ بِاسْتِعْدَادِ نَبَاتِهَا وَتَأْثِيرِ النُّورِ فِيهِ. فَهَلَّا تُسْتَنْكَرُ عَلَى حِكْمَةِ مَنْ وَفَّقَ بَيْنَ أَسْبَابِ تِلْكَ الْأَلْوَانِ ذَاتِ الْبَهْجَةِ فِي الثِّمَارِ وَبَيْنَ مَصْلَحَةِ الطَّيْرِ بِهِدَايَتِهِ إِلَيْهَا وَحِفْظِ النِّظَامِ الْعَامِّ بِبَقَاءِ أَنْوَاعِهَا أَنْ يُوَفِّقَ بَيْنَ أَسْبَابِ إِرْسَالِ الْعَوَاصِفِ وَالْأَعَاصِيرِ وَبَيْنَ عُقُوبَةِ الظَّالِمِينَ مِنَ الْبَشَرِ لِيَكُونَ لَهُمْ زَاجِرَانِ عَنِ الذُّنُوبِ، أَحَدُهُمَا: حَذَرُ آثَارِهَا الطَّبِيعِيَّةِ الضَّارَّةِ بِهِمْ فَإِنَّ لِكُلِّ ذَنْبٍ ضَرَرًا لِأَجْلِهِ كَانَ مُحَرَّمًا، إِذْ لَا يُحَرِّمُ اللهُ عَلَى عِبَادِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>