فَهِيَ لَا شَكَّ مُقْتَضِيَةٌ لِأَنْ يُفْضِي النَّسِيبُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى نَسِيبِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَالْمُحَالِفُ مِنْهُمْ لِمُحَالِفِهِ مَنْ غَيْرِهِمْ بِشَيْءٍ مِمَّا فِي نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَسْرَارِ الْمِلَّةِ الَّتِي هِيَ مَوْضُوعُ التَّبَايُنِ وَالْخِلَافِ بَيْنَهُمْ، وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضُ مَصْلَحَةِ الْمِلَّةِ لِلْخَبَالِ، لِذَلِكَ جَعَلَ اللهُ - تَعَالَى - لِلصِّلَاتِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِهِمْ حَدًّا لَا يَتَعَدُّونَهُ فَقَالَ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ إِلَى آخَرِ الْآيَاتِ.
بِطَانَةُ الرَّجُلِ: وَلِيجَتُهُ وَخَاصَّتُهُ الَّذِينَ يَسْتَبْطِنُونَ أَمْرَهُ وَيَتَوَلَّوْنَ سِرَّهُ، مَأْخُوذٌ مِنْ بِطَانَةِ الثَّوْبِ وَهُوَ الْوَجْهُ الْبَاطِنُ مِنْهُ، كَمَا يُسَمَّى الْوَجْهُ الظَّاهِرُ: ظِهَارَةً، وَمِنْ دُونِكُمْ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِكُمْ، وَيَأْلُونَكُمْ مِنَ الْإِلْوِ: وَهُوَ التَّقْصِيرُ وَالضَّعْفُ، وَ " الْخَبَالُ " فِي الْأَصْلِ الْفَسَادُ الَّذِي يَلْحَقُ الْحَيَوَانَ فَيُورِثُهُ اضْطِرَابًا كَالْأَمْرَاضِ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي الْمُخِّ فَيَخْتَلُّ إِدْرَاكُ الْمُصَابِ بِهَا، أَيْ لَا يُقَصِّرُونَ وَلَا يَنُونَ فِي إِفْسَادِ أَمْرِكُمْ، وَالْأَصْلُ فِي اسْتِعْمَالِ فِعْلِ " أَلَا " أَنْ يُقَالَ فِيهِ نَحْوُ: " لَا آلُو فِي نُصْحِكَ " وَسُمِعَ مِثْلُ " لَا آلُوكَ نُصْحًا " عَلَى مَعْنَى لَا أَمْنَعُكَ نُصْحًا، وَهُوَ مَا يُسَمُّونَهُ التَّضْمِينَ. وَعَنِتُّمْ مِنَ الْعَنَتِ وَهُوَ الْمَشَقَّةُ الشَّدِيدَةُ، وَالْبَغْضَاءُ: شِدَّةُ الْبُغْضِ.
أَمَّا سَبَبُ النُّزُولِ: فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُوَاصِلُونَ رِجَالًا مِنْ يَهُودَ لِمَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْجِوَارِ وَالْحِلْفِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ - يَنْهَاهُمْ عَنْ مُبَاطَنَتِهِمْ خَوْفَ الْفِتْنَةِ عَلَيْهِمْ - هَذِهِ الْآيَةَ ". وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ الْقَوْلَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَذَكَرَ الرَّازِيُّ وَجْهًا ثَالِثًا: أَنَّهَا فِي الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ عَامَّةً. قَالَ: " وَأَمَّا مَا تَمَسَّكُوا بِهِ مِنْ أَنَّ مَا بَعْدَ الْآيَةِ مُخْتَصٌّ بِالْمُنَافِقِينَ فَهَذَا ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ إِذَا كَانَ عَامًّا وَآخِرَهَا إِذَا كَانَ خَاصًّا لَمْ يَكُنْ خُصُوصُ آخِرِ الْآيَةِ مَانِعًا عُمُومَ أَوَّلِهَا " وَسَيَأْتِي عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ تَرْجِيحُ الْأَوَّلِ.
وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ نَهْيُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِطَانَةً مِنَ الْكَافِرِينَ الْمَوْصُوفِينَ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَأْلُونَكُمْ إِلَخْ نُعُوتٌ لِلْبِطَانَةِ هِيَ قُيُودٌ لِلنَّهْيِ، وَكَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنِفٌ مَسُوقٌ لِلتَّعْلِيلِ، فَالْمُرَادُ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ النَّهْيَ خَاصٌّ بِمَنْ كَانُوا فِي عَدَاوَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا ذُكِرَ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا يَأْلُونَهُمْ خَبَالًا وَإِفْسَادًا لِأَمْرِهِمْ مَا اسْتَطَاعُوا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا. فَهَذَا هُوَ الْقَيْدُ الْأَوَّلُ، وَالثَّانِي قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ أَيْ تَمَنَّوْا عَنَتَكُمْ، أَيْ وُقُوعَكُمْ فِي الضَّرَرِ الشَّدِيدِ وَالْمَشَقَّةِ. وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ قَوْلُهُ: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ أَيْ قَدْ ظَهَرَتْ عَلَامَاتُ بَغْضَائِهِمْ لَكُمْ مِنْ كَلَامِهِمْ، فَهِيَ لِشِدَّتِهَا مِمَّا يَعُوزُهُمْ كِتْمَانُهَا وَيَعِزُّ عَلَيْهِمْ إِخْفَاؤُهَا، عَلَى أَنَّ
مَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute