للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مِنْهَا أَكْبَرُ مِمَّا يَفِيضُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَيْهِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْبَغْضَاءِ وَالْعَدَاوَةِ مِمَّا يَلْقَاهُ الْقَائِمُونَ بِكُلِّ دَعْوَةٍ جَدِيدَةٍ فِي الْإِصْلَاحِ مِمَّنْ يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ، وَمَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ الْأَوَّلُونَ يَعْرِفُونَ سُنَّةَ الْبَشَرِ فِي ذَلِكَ، إِذَا لَمْ يَكُونُوا عَلَى عِلْمٍ بِطَبَائِعِ الْمِلَلِ وَقَوَانِينِ الِاجْتِمَاعِ وَحَوَادِثِ التَّارِيخِ حَتَّى أَعْلَمَهُمُ اللهُ بِهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ يَعْنِي بِالْآيَاتِ هُنَا: الْعَلَامَاتِ الْفَارِقَةَ بَيْنَ مَنْ يَصِحُّ أَنْ يُتَّخَذَ بِطَانَةً وَمَنْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُتَّخَذَ لِخِيَانَتِهِ وَسُوءِ عَاقِبَةِ مُبَاطَنَتِهِ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تُدْرِكُونَ حَقَائِقَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْفُصُولَ الْفَارِقَةَ بَيْنَ الْأَعْدَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ فَاعْتَبِرُوا بِهَا وَلَا تَتَّخِذُوا أُولَئِكَ بِطَانَةً.

وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي وُصِفَ بِهَا مَنْ نُهِيَ عَنِ اتِّخَاذِهِمْ بِطَانَةً لَوْ فُرِضَ أَنِ اتَّصَفَ بِهَا مَنْ هُوَ مُوَافِقُ ذَلِكَ فِي الدِّينِ وَالْجِنْسِ وَالنَّسَبِ لَمَا جَازَ لَكَ أَنْ تَتَّخِذَهُ بِطَانَةً لَكَ إِنْ كُنْتَ تَعْقِلُ، فَمَا أَعْدَلَ هَذَا الْقُرْآنَ الْحَكِيمَ وَمَا أَعْلَى هَدْيَهُ وَأَسْمَى إِرْشَادَهُ! لَقَدْ خَفِيَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ هَذِهِ التَّعْلِيلَاتُ وَالْقُيُودُ فَظَنُّوا أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْمُخَالِفِ فِي الدِّينِ مُطْلَقًا، وَلَوْ جَاءَ هَذَا النَّهْيُ مُطْلَقًا لَمَا كَانَ أَمْرًا غَرِيبًا، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا إِلْبًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي أَوَّلِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ إِذْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ وَلَا سِيَّمَا الْيَهُودُ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ عَلَى رَأْيِ الْمُحَقِّقِينَ، وَلَكِنَّ الْآيَاتِ جَاءَتْ مُقَيَّدَةً بِتِلْكَ الْقُيُودِ لِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - وَهُوَ مُنَزِّلُهَا - يَعْلَمُ مَا يَعْتَرِي الْأُمَمَ وَأَهْلَ الْمِلَلِ مِنَ التَّغَيُّرِ فِي الْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ كَمَا وَقَعَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ فَإِنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي أَوَّلِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ قَدِ انْقَلَبُوا فَصَارُوا عَوْنًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي بَعْضِ فُتُوحَاتِهِمْ (كَفَتْحِ الْأَنْدَلُسِ) وَكَذَلِكَ كَانَ الْقِبْطُ عَوْنًا لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الرُّومِ فِي مِصْرَ فَكَيْفَ يَجْعَلُ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْحُكْمَ عَلَى هَؤُلَاءِ وَاحِدًا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ أَبَدَ الْأَبِيدِ؟ أَلَا إِنَّ هَذَا مِمَّا تَنْبِذُهُ الدِّرَايَةُ. وَلَا تَرْوِي غُلَّتَهُ الرِّوَايَةُ، فَإِنَّ أَرْجَحَ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ.

قَالَ (ابْنُ جَرِيرٍ) يَرُدُّ عَلَى (قَتَادَةَ) الْقَائِلِ بِأَنَّ الْآيَةَ فِي الْمُنَافِقِينَ وَيُؤَيِّدُ رَأْيَهُ الْمُوَافِقَ لِمَا اخْتَرْنَاهُ مَا نَصُّهُ: " إِنَّ اللهَ - تَعَالَى ذِكْرُهُ - إِنَّمَا نَهَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِمَّنْ قَدْ عَرَفُوهُ

بِالْغِشِّ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَالْبَغْضَاءِ إِمَّا بِأَدِلَّةٍ ظَاهِرَةٍ دَالَّةٍ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَتِهِمْ، وَإِمَّا بِإِظْهَارِ الْمَوْصُوفِينَ بِتِلْكَ الْعَدَاوَةِ وَالشَّنَآنِ وَالْمُنَاصَبَةِ لَهُمْ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَتَأَسُّوهُ - مَعْرِفَةً أَنَّهُ الَّذِي نَهَاهُمُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - عَنْ مُخَالَّتِهِ وَمُبَاطَنَتِهِ - وَإِمَّا جَائِزٌ أَنْ يَكُونُوا نُهُوا عَنْ مُخَالَّتِهِ وَمُصَادَقَتِهِ إِلَّا بَعْدَ تَعْرِيفِهِمْ إِيَّاهُمْ إِمَّا بِأَعْيَانِهِمْ وَأَسْمَائِهِمْ، وَإِمَّا بِصِفَاتٍ قَدْ عَرَّفُوهُمْ بِهَا، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَكَانَ إِبْدَاءُ الْمُنَافِقِينَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ بَغْضَاءِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى إِخْوَانِهِمُ الْكُفَّارِ - أَيْ كَمَا قَالَ قَتَادَةُ - غَيْرَ مُدْرِكٍ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ مَعْرِفَةَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مَعَ إِظْهَارِهِمُ الْإِيمَانَ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَالتَّوَدُّدِ إِلَيْهِمْ عَلَى مَا وَصَفَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ، فَعَرَفَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِالصِّفَةِ الَّتِي نَعَتَهُمُ اللهُ بِهَا. وَأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ - اللهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ - بِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

<<  <  ج: ص:  >  >>