للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مِمَّنْ كَانَ لَهُمْ ذِمَّةٌ وَعَهْدٌ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ; لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا الْمُنَافِقِينَ لَكَانَ الْأَمْرُ مِنْهُمْ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلَوْ كَانَ الْكُفَّارُ مِمَّنْ نَاصَبَ الْمُسْلِمِينَ الْحَرْبَ لَمْ يَكُنِ الْمُؤْمِنُونَ مُتَّخِذِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِطَانَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ اخْتِلَافِ بِلَادِهِمْ وَافْتِرَاقِ أَمْصَارِهِمْ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيَّامَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّنْ كَانَ لَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَهْدٌ وَعَقْدٌ مِنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ " اهـ. فَهَذَا شَيْخُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَشْهَرُهُمْ يَجْعَلُ هَذَا النَّهْيَ فِيمَنْ ظَهَرَتْ عَدَاوَتُهُمْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِلْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ مِمَّنْ كَانَ لَهُمْ عَهْدٌ فَخَانُوا فِيهِ كَبَنِي النَّضِيرِ الَّذِينَ حَاوَلُوا قَتْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَثْنَاءَ ائْتِمَانِهِ لَهُمْ لِمَكَانِ الْعُهَدِ وَالْمُحَالَفَةِ، وَيَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ جَمِيعَ الْكَافِرِينَ أَوِ الْمُنَافِقِينَ، فَهَذَا حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِي الْمُخَالِفِينَ أَيَّامَ كَانَ جَمِيعُ النَّاسِ حَرْبًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَهَلْ يُنْكِرُ أَحَدٌ لَهُ مَسْكَةٌ مِنَ الْإِنْصَافِ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْقُيُودِ الَّتِي قُيِّدَ بِهَا يُعَدُّ مُنْتَهَى التَّسَاهُلِ وَالتَّسَامُحِ مَعَ الْمُخَالِفِينَ، إِذْ لَمْ يَمْنَعِ اتِّخَاذَ الْبِطَانَةِ إِلَّا مِمَّنْ ظَهَرَتْ عَدَاوَتُهُمْ وَبَغْضَاؤُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ، فَهُمْ لَا يُقَصِّرُونَ فِي إِفْسَادِ أَمْرِهِمْ وَيَتَمَنَّوْنَ لَهُمُ الشَّرَّ فَوْقَ ذَلِكَ. لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْقُيُودُ لِلنَّهْيِ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمُخَالِفِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَمُشَارَكَتِهِمْ فِي كُلِّ عَمَلٍ لَكَانَ وَجْهُ الْعَدْلِ فِيهَا زَاهِرًا، وَطَرِيقُ الْعُذْرِ فِيهَا ظَاهِرًا، فَكَيْفَ وَهِيَ قُيُودٌ لِاتِّخَاذِهِمْ بِطَانَةً يُسْتَوْدَعُونَ الْأَسْرَارَ وَيُسْتَعَانُ بِرَأْيِهِمْ

وَعَمَلِهِمْ عَلَى شُئُونِ الدِّفَاعِ عَنِ الْمِلَّةِ وَصَوْنِ حُقُوقِهَا وَمُقَاوَمَةِ أَعْدَائِهَا؟

مَا أَشْبَهَ هَذَا النَّهْيَ فِي قُيُودِهِ بِالنَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الْكَفَّارِ أَنْصَارًا وَأَوْلِيَاءَ، إِذْ قُيِّدَ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [٦٠: ٨، ٩] وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا الْبَحْثَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [٣: ٢٨] .

هَذَا التَّسَاهُلُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ هُوَ الَّذِي أَرْشَدَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ إِلَى جَعْلِ رِجَالِ دَوَاوِينِهِ مِنَ الرُّومِ، وَجَرَى الْخَلِيفَتَانِ الْآخَرَانِ وَمُلُوكُ بَنِي أُمَيَّةَ مِنْ بَعْدِهِ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ نَقَلَ الدَّوَاوِينَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ مِنَ الرُّومِيَّةِ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ. وَبِهَذِهِ السِّيرَةِ وَذَلِكَ الْإِرْشَادِ عَمِلَ الْعَبَّاسِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ فِي نَوْطِ أَعْمَالِ الدَّوْلَةِ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ، وَمِنْ ذَلِكَ جَعْلُ الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ أَكْثَرَ سُفَرَائِهَا وَوُكَلَائِهَا فِي بِلَادِ الْأَجَانِبِ مِنَ النَّصَارَى. وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ يَقُولُ مُتَعَصِّبُو أُورُبَّا: إِنَّ الْإِسْلَامَ لَا تَسَاهُلَ فِيهِ! ! " رَمَتْنِي بِدَائِهَا وَانْسَلَّتْ " أَلَا إِنَّ التَّسَاهُلَ قَدْ خَرَجَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ حَدِّهِ، حَتَّى كَتَبَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ مَقَالَهُ فِي الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى

<<  <  ج: ص:  >  >>