للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

صَدَّرَهَا بِالْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا نُورِدُهَا هُنَا بِرُمَّتِهَا لِأَنَّهَا تَدْخُلُ فِي بَابِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَالِاعْتِبَارِ بِهَا عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ وَهَذَا نَصُّهَا (نَقْلًا مِنَ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ تَارِيخِهِ) :

" قَالُوا: تُصَانُ الْبِلَادُ وَيُحْرَسُ الْمُلْكُ بِالْبُرُوجِ الْمُشَيَّدَةِ وَالْقِلَاعِ الْمَنِيعَةِ وَالْجُيُوشِ الْعَامِلَةِ وَالْأُهَبِ الْوَافِرَةِ وَالْأَسْلِحَةِ الْجَيِّدَةِ. قُلْنَا: نَعَمْ، هِيَ أَحْرَازٌ وَآلَاتٌ لَا بُدَّ مِنْهَا لِلْعَمَلِ فِيمَا يَقِي الْبِلَادَ، وَلَكِنَّهَا لَا تَعْمَلُ بِنَفْسِهَا وَلَا تَحْرُسُ بِذَاتِهَا فَلَا صِيَانَةَ بِهَا وَلَا حِرَاسَةَ إِلَّا أَنْ يَتَنَاوَلَ أَعْمَالَهَا رِجَالٌ ذَوُو خِبْرَةٍ وَأُولُو رَأْيٍ وَحِكْمَةٍ يَتَعَهَّدُونَهَا بِالْإِصْلَاحِ زَمَنَ السِّلْمِ وَيَسْتَعْمِلُونَهَا فِيمَا قُصِدَتْ لَهُ زَمَنَ الْحَرْبِ، وَلَيْسَ بِكَافٍ حَتَّى يَكُونَ رِجَالٌ

مِنْ ذَوِي التَّدْبِيرِ وَالْحَزْمِ وَأَصْحَابِ الْحِذْقِ وَالدِّرَايَةِ يَقُومُونَ عَلَى سَائِرِ شُئُونِ الْمَمْلَكَةِ، يُوَطِّئُونَ طُرُقَ الْأَمْنِ وَيَبْسُطُونَ بِسَاطَ الرَّاحَةِ وَيَرْفَعُونَ بِنَاءَ الْمُلْكِ عَلَى قَوَاعِدِ الْعَدْلِ وَيُوقِفُونَ الرَّعِيَّةَ عِنْدَ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ، ثُمَّ يُرَاقِبُونَ رَوَابِطَ الْمَمْلَكَةِ مَعَ سَائِرِ الْمَمَالِكِ الْأَجْنَبِيَّةِ لِيَحْفَظُوا لَهَا الْمَنْزِلَةَ الَّتِي تَلِيقُ بِهَا بَيْنَهَا، بَلْ يَحْمِلُوهَا عَلَى أَجْنِحَةِ السِّيَاسَةِ الْقَوِيمَةِ إِلَى أَسْمَى مَكَانَةٍ تُمْكِنُ لَهَا، وَلَنْ يَكُونُوا أَهْلًا لِلْقِيَامِ عَلَى هَذِهِ الشُّئُونِ الرَّفِيعَةِ حَتَّى تَكُونَ قُلُوبُهُمْ فَائِضَةً بِمَحَبَّةِ الْبِلَادِ طَافِحَةً بِالْمَرْحَمَةِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى سُكَّانِهَا، وَحَتَّى تَكُونَ الْحَمِيَّةُ ضَارِبَةً فِي نُفُوسِهِمْ آخِذَةً بِطِبَاعِهِمْ، يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مُنَبِّهًا عَلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَزَاجِرًا عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِمْ، وَغَضَاضَةً وَأَلَمًا مُوجِعًا عِنْدَمَا يَمَسُّ مَصْلَحَةَ الْمَمْلَكَةِ ضَرَرٌ وَيُوجَسُ عَلَيْهَا مِنْ خَطَرٍ ; لِيَتَيَسَّرَ لَهُمْ بِهَذَا الْإِحْسَاسِ وَتِلْكَ الصِّفَاتِ أَنْ يُؤَدُّوا أَعْمَالَ وَظَائِفِهِمْ - كَمَا يَنْبَغِي - وَيَصُونُوهَا مِنَ الْخَلَلِ رُبَّمَا يُفْضِي إِلَى فَسَادٍ كَبِيرٍ فِي الْمُلْكِ. فَهَؤُلَاءِ الرِّجَالُ بِهَذِهِ الْخِلَالِ هُمُ الْمَنَعَةُ الْوَاقِيَةُ وَالْقُوَّةُ الْغَالِبَةُ.

" يَسْهُلُ عَلَى أَيِّ حَاكِمٍ فِي أَيِّ قَبِيلٍ لِأَنْ يُكَتِّبَ الْكَتَائِبَ وَيَجْمَعَ الْجُنُودَ وَيُوَفِّرُ الْعُدَدَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ بِنَقْدِ النُّقُودِ وَبَذْلِ النَّفَقَاتِ، وَلَكِنْ مِنْ أَيْنَ يُصِيبُ بِطَانَةً مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَشَرْنَا إِلَيْهِمْ: عُقَلَاءَ رُحَمَاءَ أُبَاةً أَصْفِيَاءَ تُهِمُّهُمْ حَاجَاتُ الْمُلْكِ كَمَا تُهِمُّهُمْ ضَرُورَاتُ حَيَاتِهِمْ؟ لَا بُدَّ أَنْ يُتَّبَعَ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْخَطِيرِ قَانُونُ الْفِطْرَةِ، وَيُرَاعَى نَامُوسُ الطَّبِيعَةِ، فَإِنَّ مُتَابَعَةَ هَذَا النَّامُوسِ تَحْفَظُ الْفِكْرَ مِنَ الْخَطَأِ وَتَكْشِفُ لَهُ خَفِيَّاتِ الدَّقَائِقِ، وَقَلَّمَا يُخْطِئُ فِي رَأْيِهِ أَوْ يَتَأَوَّدُ فِي عَمَلِهِ مَنْ أَخَذَ بِهِ دَلِيلًا وَجَعَلَ لَهُ مِنْ هَدْيِهِ مُرْشِدًا. وَإِذَا نَظَرَ الْعَاقِلُ فِي أَنْوَاعِ الْخَطَأِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي الْعَالَمِ الْإِنْسَانِيِّ مِنْ كُلِّيَّةٍ وَجُزْئِيَّةٍ وَطَلَبَ أَسْبَابَهَا لَا يَجِدُ لَهَا مِنْ عِلَّةٍ سِوَى الْمَيْلِ عَنْ قَانُونِ الْفِطْرَةِ وَالِانْحِرَافِ عَنْ سُنَّةِ اللهِ فِي خَلْقِهِ.

مِنْ أَحْكَامِ هَذَا النَّامُوسِ الثَّابِتِ أَنَّ الشَّفَقَةَ وَالْمَرْحَمَةَ وَالنَّعْرَةَ عَلَى الْمُلْكِ وَالرَّعِيَّةِ، إِنَّمَا تَكُونُ لِمَنْ لَهُ فِي الْأُمَّةِ أَصْلٌ رَاسِخٌ وَوَشِيجٌ يَشُدُّ صِلَتَهُ بِهَا. هَذِهِ فِطْرَةٌ فَطَرَ اللهُ النَّاسَ عَلَيْهَا، إِنَّ الْمُلْتَحِمَ مَعَ الْأُمَّةِ بِعَلَاقَةِ الْجِنْسِ يُرَاعِي نِسْبَتَهُ إِلَيْهَا وَنِسْبَتَهَا إِلَيْهِ، وَيَرَاهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ سَائِرِ نِسْبَةِ الْخَاصَّةِ بِهِ فَيُدَافِعُ الضَّيْمَ عَنِ الدَّاخِلِينَ مَعَهُ فِي تِلْكَ النِّسْبَةِ دِفَاعَهُ عَنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>