للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يَجِدُونَ مِنْهَا الْبَاعِثَ عَلَى الْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ - وَمَنْ تَتَبَّعَ التَّوَارِيخَ الَّتِي تُمَثِّلُ لَنَا أَحْوَالَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَتَحْكِي لَنَا عَنْ سُنَّةِ اللهِ فِي خَلِيقَتِهِ وَتَصْرِيفَهُ لِشُئُونِ عِبَادِهِ رَأَى أَنَّ الدُّوَلَ فِي نُمُوِّهَا وَبَسْطَتِهَا مَا كَانَتْ مَصُونَةً إِلَّا بِرِجَالٍ مِنْهَا يَعْرِفُونَ لَهَا حَقَّهَا كَمَا تَعْرِفُ لَهُمْ حَقَّهُمْ، وَمَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِهَا بِيَدِ أَجْنَبِيٍّ عَنْهَا، وَأَنَّ تِلْكَ الدُّوَلَ مَا انْخَفَضَ مَكَانُهَا وَلَا سَقَطَتْ فِي هُوَّةِ الِانْحِطَاطِ إِلَّا عِنْدَ دُخُولِ الْعُنْصُرِ الْأَجْنَبِيِّ فِيهَا وَارْتِقَاءِ الْغُرَبَاءِ إِلَى الْوَظَائِفِ السَّامِيَةِ فِي أَعْمَالِهَا ; فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي كُلِّ دَوْلَةٍ آيَةُ الْخَرَابِ وَالدَّمَارِ، خُصُوصًا إِذَا كَانَ بَيْنَ الْغُرَبَاءِ وَبَيْنَ الدَّوْلَةِ الَّتِي يَتَنَاوَلُونَ أَعْمَالَهَا مُنَافَسَاتٌ وَأَحْقَادٌ مُزِجَتْ بِهَا دِمَاؤُهُمْ وَعُجِنَتْ بِهَا طِينَتُهُمْ مِنْ أَزْمَانٍ طَوِيلَةٍ.

" نَعَمْ كَمَا يَحْصُلُ الْفَسَادُ فِي بَعْضِ الْأَخْلَاقِ وَالسَّجَايَا الطَّبِيعِيَّةِ بِسَبَبِ الْعَوَارِضِ الْخَارِجِيَّةِ كَذَلِكَ يَحْصُلُ الضَّعْفُ وَالْفُتُورُ فِي حَمِيَّةِ أَبْنَاءِ الدِّينِ أَوِ الْأُمَّةِ، وَيَطْرَأُ النَّقْصُ عَلَى شَفَقَتِهِمْ وَمَرْحَمَتِهِمْ فَيَنْقُصُ بِذَلِكَ اهْتِمَامُ الْعُظَمَاءِ مِنْهُمْ بِمَصَالِحِ الْمُلْكِ إِذَا كَانَ وَلِيُّ الْأَمْرِ لَا يُقَدِّرُ أَعْمَالَهُمْ حَقَّ قَدْرِهَا، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُقَدِّمُونَ مَنَافِعَهُمُ الْخَاصَّةَ عَلَى فَرَائِضِهِمُ الْعَامَّةِ فَيَقَعُ الْخَلَلُ فِي نِظَامِ الْأُمَّةِ وَيَضْرِبُ فِيهَا الْفَسَادُ، وَلَكِنْ مَا يَكُونُ مِنْ ضُرِّهِ أَخَفُّ وَأَقْرَبُ إِلَى التَّلَافِي مِنَ الضَّرَرِ الَّذِي يَكُونُ سَبَبُهُ اسْتِلَامَ الْأَجَانِبِ لِهَامَاتِ الْأُمُورِ فِي الْبِلَادِ ; لِأَنَّ صَاحِبَ اللُّحْمَةِ فِي الْأُمَّةِ وَإِنْ مَرِضَتْ أَخْلَاقُهُ وَاعْتَلَّتْ صِفَاتُهُ إِلَّا أَنَّ مَا أَوْدَعَتْهُ الْفِطْرَةُ وَثَبَتَ فِي الْجِبِلَّةِ لَا يُمْكِنُ مَحْوُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِذَا أَسَاءَ فِي عَمَلِهِ مَرَّةً أَزْعَجَهُ مِنْ نَفْسِهِ صَائِحُ الْوَشِيجَةِ الدِّينِيَّةِ أَوِ الْجِنْسِيَّةِ فَيَرْجِعُ إِلَى الْإِحْسَانِ مَرَّةً أُخْرَى، وَإِنَّ مَا شُدَّ بِالْقَلْبِ مِنْ عَلَائِقِ الدِّينِ أَوِ الْجِنْسِ لَا يَزَالُ يَجْذِبُهُ آوِنَةً بَعْدَ آوِنَةٍ لِمُرَاعَاتِهَا وَالِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا وَيُمِيلُهُ إِلَى الْمُتَّصِلِينَ مَعَهُ بِتِلْكَ الْعَلَائِقِ وَإِنْ بَعُدُوا.

وَلِهَذَا يَحِقُّ لَنَا أَنْ نَأْسَفَ غَايَةَ الْأَسَفِ عَلَى أُمَرَاءِ الشَّرْقِ وَأَخُصُّ مِنْ بَيْنِهِمْ

أُمَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ سَلَّمُوا أُمُورَهُمْ وَوَكَّلُوا أَعْمَالَهُمْ مِنْ كِتَابَةٍ وَإِدَارَةٍ وَحِمَايَةٍ لِلْأَجَانِبِ عَنْهُمْ، بَلْ زَادُوا فِي مُوَالَاةِ الْغُرَبَاءِ وَالثِّقَةِ بِهِمْ حَتَّى وَلُّوهُمْ خِدْمَتَهُمُ الْخَاصَّةَ بِهِمْ فِي بُطُونِ بُيُوتِهِمْ، بَلْ كَادُوا يَتَنَازَلُونَ لَهُمْ عَنْ مَلِكَتِهِمْ فِي مَمَالِكِهِمْ بَعْدَمَا رَأَوْا كَثْرَةَ الْمَطَامِعِ فِيهَا لِهَذَا الزَّمَانِ، وَأَحَسُّوا بِالضَّغَائِنِ وَالْأَحْقَادِ الْمَوْرُوثَةِ مِنْ أَجْيَالٍ بَعِيدَةٍ بَعْدَ مَا عَلَّمَتْهُمُ التَّجَارِبُ أَنَّهُمْ إِذَا ائْتُمِنُوا خَانُوا، وَإِذَا عَزَّزُوا أَهَانُوا. يُقَابِلُونَ الْإِحْسَانَ بِالْإِسَاءَةِ وَالتَّوْقِيرَ بِالتَّحْقِيرِ، وَالنِّعْمَةَ بِالْكُفْرَانِ، وَيُجَازُونَ عَلَى اللُّقْمَةِ بِاللَّطْمَةِ، وَالرُّكُونَ إِلَيْهِمْ بِالْجَفْوَةِ، وَالصِّلَةَ بِالْقَطِيعَةِ، وَالثِّقَةَ فِيهِمْ بِالْخُدْعَةِ.

" أَمَا آنَ لِأُمَرَاءِ الشَّرْقِ أَنْ يَدِينُوا لِأَحْكَامِ اللهِ الَّتِي لَا تُنْقَضُ؟ أَلَمْ يَأْنِ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى حِسِّهِمْ وَوِجْدَانِهِمْ؟ أَلَمْ يَأْتِ وَقْتٌ يَعْمَلُونَ فِيهِ بِمَا أَرْشَدَتْهُمُ الْحَوَادِثُ وَدَلَّتْهُمْ عَلَيْهِ الرَّزَايَا

<<  <  ج: ص:  >  >>