بِالتَّعَصُّبِ وَالْبَغْضَاءِ لِلْمُخَالِفِ هِيَ الَّتِي أَبَادَتْ مِنْ بِلَادِهَا كُلَّ مُخَالِفٍ لِدِينِهَا إِلَّا التُّرْكَ، فَإِنَّهَا لَمْ تَقْوَ عَلَى إِبَادَتِهِمْ حَتَّى الْآنَ، وَلَوْلَا مَا بَيْنَ دُوَلِهَا مِنَ التَّنَازُعِ السِّيَاسِيِّ لَقَضَتْ عَلَيْهِمْ، فَنَصَارَى الشَّرْقِ وَمُسْلِمُوهُ وَكَذَا وَثَنِيُّوهُ إِنَّمَا اغْتَرَفُوا غَرْفَةً مِنْ بَحْرِ تَعَصُّبِ أُورُوبَّا وَلَكِنَّهُمْ لَا قُوَّةَ لَهُمْ عَلَى الدِّفَاعِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَمَامَ أُولَئِكَ الْمُعْتَدِينَ.
أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ فَمَعْنَاهُ أَنَّكُمْ تُؤْمِنُونَ بِجَمِيعِ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَابٍ سَوَاءٌ مِنْهُ مَا نَزَلَ عَلَيْكُمْ وَمَا نَزَلَ عَلَيْهِمْ، فَلَيْسَ فِي نُفُوسِكُمْ مِنَ الْكُفْرِ بِبَعْضِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ أَوِ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ جَاءُوا بِهَا مَا يَحْمِلُكُمْ عَلَى بُغْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَأَنْتُمْ تُحِبُّونَهُمْ بِمُقْتَضَى إِيمَانِكُمْ هَذَا، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ جُمْلَةَ تُؤْمِنُونَ حَالِيَّةٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يُحِبُّونَكُمْ مَعَ أَنَّكُمْ تُؤْمِنُونَ بِكِتَابِهِمْ وَكِتَابِكُمْ
فَكَيْفَ لَوْ كُنْتُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِكِتَابِهِمْ كَمَا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِكِتَابِكُمْ؟ فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِبُغْضِهِمْ، أَيْ وَمَعَ ذَلِكَ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ.
قَالَ (ابْنُ جَرِيرٍ) : " فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِبَانَةٌ مِنَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - عَنْ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ، أَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَرَحْمَةُ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَرَأْفَتُهُمْ بِأَهْلِ الْخِلَافِ لَهُمْ، وَقَسَاوَةُ قُلُوبِ أُولَئِكَ وَغِلْظَتُهُمْ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ، كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: قَوْلَهُ: هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ فَوَاللهِ إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُحِبُّ الْمُنَافِقَ وَيَأْوِي إِلَيْهِ وَيَرْحَمُهُ وَلَوْ أَنَّ الْمُنَافِقَ يَقْدِرُ مِنَ الْمُؤْمِنِ عَلَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُ مِنْهُ لَأَبَادَ خَضْرَاءَهُ ". حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: " الْمُؤْمِنُ خَيْرٌ لِلْمُنَافِقِ مِنَ الْمُنَافِقِ لَلْمُؤْمِنُ يَرْحَمُهُ، وَلَوْ يَقْدِرُ الْمُنَافِقُ مِنَ الْمُؤْمِنِ عَلَى مِثْلِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُ مِنْهُ لَأَبَادَ خَضْرَاءَهُ ". اهـ.
فَهَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ التَّفْسِيرِ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمُسْلِمَ خَيْرٌ لِلْكَافِرِ وَلِلْمُنَافِقِ مِنْهُمَا لَهُ حُبًّا وَرَحْمَةً وَمُعَامَلَةً. وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي السُّنِّيِّ مَعَ الْمُبْتَدِعِ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ، قَالُوا: إِنَّ مِنْ عَلَامَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنْ يَرْحَمُوا الْمُخَالِفَ لَهُمْ وَلَا يَقْطَعُوا أُخُوَّتَهُ فِي الدِّينِ ; وَلِذَلِكَ يَذْكُرُونَ فِي كُتُبِ الْعَقَائِدِ " لَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ " بَلْ كَانَ رُوَاةُ الْحَدِيثِ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ يَرْوُونَ عَنِ الْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى مَذْهَبِ الرَّاوِي بَلْ إِلَى عَدَالَتِهِ فِي نَفْسِهِ. وَنَتِيجَةُ هَذَا كُلِّهِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ فِي التَّسَاهُلِ وَالْمَحَبَّةِ وَالرَّحْمَةِ لِإِخْوَانِهِ الْبَشَرِ عَلَى قَدْرِ تَمَسُّكِهِ بِالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَقُرْبِهِ مِنَ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ فِيهِ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَاللهُ يَقُولُ لِخِيَارِ الْمُؤْمِنِينَ: هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ فَبِهَذَا نَحْتَجُّ عَلَى مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ دِينَنَا يُغْرِينَا بِبَغْضِ الْمُخَالِفِ لَنَا كَمَا نَحْتَجُّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute