للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عَلَى بَعْضِ الْجَاهِلِينَ مِنَّا بِدِينِهِمُ الَّذِينَ يَطْعَنُونَ بِبَعْضِ عُلَمَائِهِمْ وَفُضَلَائِهِمْ، لِمُخَالَفَتِهِمْ إِيَّاهُمْ فِي مَذَاهِبِهِمْ وَآرَائِهِمْ، أَوْ فِي ظُنُونِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، وَالَّذِينَ سَرَتْ إِلَيْهِمْ عَدْوَى الْمُتَعَصِّبِينَ، فَاسْتَحَلُّوا هَضْمَ حُقُوقِ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ فِي الدِّينِ.

ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى - شَأْنُهُ مُبَيِّنًا لِشَأْنِ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ أَسْنَدَهَا إِلَيْهِمْ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى قَاعِدَةِ تَكَافُلِ الْأُمَّةِ

وَكَوْنِهَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ: وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ كَانَ بَعْضُ الْيَهُودِ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ نِفَاقًا وَخِدَاعًا، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُظْهِرُهُ ثُمَّ يَرْجِعُ عَنْهُ لِيُشَكِّكَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي آيَةِ " ٧٢ " مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ أَظْهَرُوا مَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الْغَيْظِ وَالْحِقْدِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُونَ مَعَهُ إِلَى التَّشَفِّي سَبِيلًا، وَعَضُّ الْأَنَامِلِ: كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ الْغَيْظِ، وَيُكَنَّى بِهِ أَيْضًا عَنِ النَّدَمِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ غَيْظِكُمْ لَا يَزْدَادُ بِاعْتِصَامِ أَهْلِهِ بِهِ إِلَّا عِزَّةً وَقُوَّةً وَانْتِشَارًا، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: " مُوتُوا بِغَيْظِكُمُ الَّذِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لِاجْتِمَاعِ كَلِمَتِهِمْ وَائْتِلَافِ جَمَاعَتِهِمْ " فَلْيَعْتَبِرِ الْمُسْلِمُونَ الْيَوْمَ بِهَذَا لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أَنَّهُ مَا حَلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ مِنَ الْأَرْزَاءِ إِلَّا بِزَوَالِ هَذَا الِاجْتِمَاعِ وَالِائْتِلَافِ وَبِالتَّفَرُّقِ بَعْدَ الِاعْتِصَامِ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ فَهُوَ يَعْلَمُ مَا تَضُمُّ صُدُورُكُمْ مِنْ شُعُورِ الْغَيْظِ وَالْبَغْضَاءِ وَمَوْجِدَةِ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ، فَكَيْفَ يَخْفَى عَلَيْهِ مَا تَقُولُونَ فِي خَلَوَاتِكُمْ وَمَا يُبْدِيهِ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ مِنْ ذَلِكَ وَيَعْلَمُ كَذَلِكَ مَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ صُدُورُنَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حُبِّ الْخَيْرِ وَالنُّصْحِ لَكُمْ.

ثُمَّ قَالَ مُبَيِّنًا حَسَدَهُمْ وَسُوءَ طَوِيَّتِهِمْ: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا الْمَسُّ فِي الْأَصْلِ: كَاللَّمْسِ، وَالْمُرَادُ بِـ تَمْسَسْكُمْ هُنَا تُصِبْكُمْ، وَلَعَلَّ اخْتِيَارَ لَفْظِ الْمَسِّ فِي جَانِبِ الْحَسَنَةِ وَالْإِصَابَةِ فِي جَانِبِ السَّيِّئَةِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ يَسُوءُهُمْ مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ خَيْرٍ وَإِنْ قَلَّ، بِأَنْ كَانَ لَا يَزِيدُ عَلَى مَا يُمَسُّ بِالْيَدِ وَإِنَّمَا يَفْرَحُونَ بِالسَّيِّئَةِ إِذَا أَصَابَتِ الْمُسْلِمِينَ إِصَابَةً يَشُقُّ احْتِمَالُهَا. هَذَا مَا كَانَ يَتَبَادَرُ إِلَى فَهْمِي وَلَكِنْ رَأَيْتُ صَاحِبَ الْكَشَّافِ يَجْعَلُهُمَا هُنَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَيَسْتَدِلُّ بِاسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ لِكُلٍّ مِنْهَا فِي مَوْضِعِ الْآخَرِ، وَيَقُولُ: إِنَّ الْمَسَّ مُسْتَعَارٌ لِلْإِصَابَةِ، ثُمَّ خَطَرَ لِي أَنْ أُرَاجِعَ تَفْسِيرَ (أَبِي السُّعُودِ) فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: " وَذِكْرُ الْمَسِّ مَعَ الْحَسَنَةِ وَالْإِصَابَةِ مَعَ السَّيِّئَةِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ مَدَارَ مَسَاءَتِهِمْ أَدْنَى مَرَاتِبِ إِصَابَةِ الْحَسَنَةِ وَمَنَاطَ فَرَحِهِمْ تَمَامُ إِصَابَةِ السَّيِّئَةِ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْيَأْسَ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الْإِصَابَةِ " وَالْأَوَّلُ هُوَ الْوَجْهُ، وَهُوَ مِنْ دَقَائِقِ

الْبَلَاغَةِ الْعُلْيَا، وَالْحَسَنَةُ: الْمَنْفَعَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ حِسِّيَّةً

<<  <  ج: ص:  >  >>