للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَوْ مَعْنَوِيَّةً، وَأَعْظَمُهَا انْتِشَارُ الْإِسْلَامِ وَدُخُولُ النَّاسِ فِيهِ وَانْتِصَارُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُعْتَدِينَ عَلَيْهِمُ الْمُقَاوِمِينَ لِدَعْوَتِهِمْ. قَالَ (قَتَادَةُ) فِي بَيَانِ ذَلِكَ كَمَا رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ: " فَإِذَا رَأَوْا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ أُلْفَةً وَحِمَايَةً وَظُهُورًا عَلَى عَدُوِّهِمْ غَاظَهُمْ ذَلِكَ وَسَاءَهُمْ، وَإِذَا رَأَوْا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فُرْقَةً وَاخْتِلَافًا أَوْ أُصِيبَ طَرَفٌ مِنْ أَطْرَافِ الْمُسْلِمِينَ سَرَّهُمْ ذَلِكَ وَأُعْجِبُوا بِهِ وَابْتَهَجُوا بِهِ، فَهُمْ كُلَّمَا خَرَجَ مِنْهُمْ قَرْنٌ أَكْذَبَ اللهُ أُحْدُوثَتَهُ وَأَوْطَأَ مَحَلَّتَهُ، وَأَبْطَلَ حُجَّتَهُ وَأَظْهَرَ عَوْرَتَهُ ; فَذَلِكَ قَضَاءُ اللهِ فِيمَنْ مَضَى مِنْهُمْ وَفِيمَنْ بَقِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ".

ثُمَّ أَرْشَدَ اللهُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مَا إِنْ تَمَسَّكُوا بِهِ سَلِمُوا مِنْ كَيْدِهِمُ الَّذِي يَدْفَعُهُمْ إِلَيْهِ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ فَقَالَ: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ: وَإِنْ تَصْبِرُوا عَلَى عَدَاوَتِهِمْ وَتَتَّقُوا اتِّخَاذَهُمْ بِطَانَةً وَمُوَالَاتَهُمْ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ لَكُمْ هُمْ بِمَعْزِلٍ عَنْكُمْ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ: وَإِنْ تَصْبِرُوا عَلَى مَشَاقِّ التَّكَالِيفِ وَامْتِثَالِ الْأَوَامِرِ عَامَّةً وَتَتَّقُوا مَا نُهِيتُمْ عَنْهُ وَخَطَرٌ عَلَيْكُمْ - وَمِنْهُ اتِّخَاذُ الْبِطَانَةِ مِنْهُمْ - لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ. وَيَضُرُّكُمْ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ مِنَ الضَّرَرِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ " يَضِرْكُمْ " بِكَسْرِ الضَّادِ وَسُكُونِ الرَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ مِنْ ضَارَهُ يَضِيرُهُ، وَالضَّيْرُ بِمَعْنَى الْمَضَرَّةِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الصَّبْرَ يُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ فِي مَقَامِ مَا يَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ، وَحَبْسُ الْإِنْسَانِ سِرَّهُ عَنْ وَدِيدِهِ وَعَشِيرِهِ وَمُعَامِلِهِ وَقَرِيبِهِ مِمَّا يَشُقُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مِنْ لَذَّاتِ النُّفُوسِ أَنْ تُفْضِيَ بِمَا فِي الضَّمِيرِ إِلَى مَنْ تَسْكُنُ إِلَيْهِ وَتَأْنَسُ بِهِ، فَلَمَّا نُهُوا عَنِ اتِّخَاذِ بِطَانَةٍ مِمَّنْ دُونَهُمْ مِنْ خُلَطَائِهِمْ وَعُشَرَائِهِمْ وَحُلَفَائِهِمْ وَعَلَّلَ بِمَا عَلَّلَ بِهِ مِنْ بَيَانِ بَغْضَائِهِمْ وَكَيْدِهِمْ حَسُنَ أَنْ يُذَكَّرُوا بِالصَّبْرِ عَلَى هَذَا لِتَكْلِيفِ الشَّاقِّ عَلَيْهِمْ، وَبِاتِّقَاءِ مَا يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ لِأَجْلِ السَّلَامَةِ مِنْ عَاقِبَةِ كَيْدِهِمْ. وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِالتَّقْوَى: الْأَخْذُ بِوَصَايَاهُ وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ - تَعَالَى - فِي الْبِطَانَةِ وَغَيْرِهَا.

أَقُولُ: وَمِنَ الِاعْتِبَارِ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ - تَعَالَى - أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّبْرِ عَلَى عَدَاوَةِ أُولَئِكَ الْمُبْغِضِينَ الْكَائِدِينَ وَبِاتِّقَاءِ شَرِّهِمْ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِمُقَابَلَةِ كَيْدِهِمْ وَشَرِّهِمْ بِمِثْلِهِ، وَهَكَذَا

شَأْنُ الْقُرْآنِ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِالْمَحَبَّةِ وَالْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ وَدَفْعِ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ إِنْ أَمْكَنَ كَمَا قَالَ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [٤١: ٣٤] فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَحْوِيلُ الْعَدُوِّ إِلَى مُحِبٍّ بِدَفْعِ سَيِّئَاتِهِ بِمَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهَا فَإِنَّهُ يُجِيزُ دَفْعَ السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا مِنْ غَيْرِ بَغْيٍ وَلَا اعْتِدَاءٍ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مُعَامَلَةِ بَنِي النَّضِيرِ الَّذِينَ نَزَلَتِ الْآيَةُ فِيهِمْ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ ; فَإِنَّهُ حَالَفَهُمْ وَوَادَّهُمْ فَنَكَثُوهُمْ وَخَانُوا غَيْرَ مَرَّةٍ: أَعَانُوا عَلَيْهِ قُرَيْشًا يَوْمَ بَدْرٍ وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ نَسُوا الْعَهْدَ، ثُمَّ أَعَانُوا الْأَحْزَابَ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا لِإِبَادَةِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ حَاوَلُوا قَتْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

<<  <  ج: ص:  >  >>