وَمَنْفَعَتَهُ مَعَ بَيَانِ الْحَقِيقَةِ، وَهِيَ أَنَّ النَّصْرَ بِيَدِ اللهِ الْعَزِيزِ، أَيِ الْقَوِيِّ الَّذِي لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ الْحَكِيمِ الَّذِي يُدِيرُ الْأَمْرَ عَلَى خَيْرِ سَنَنٍ، وَيُقِيمُهُ بِأَحْسَنِ سُنَنٍ، فَيَهْدِي لِأَسْبَابِ النَّصْرِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ مَنْ يَشَاءُ، وَيَصْرِفُ عَنْهُمَا مَنْ يَشَاءُ. فَإِنْ حَصَلَ الْإِمْدَادُ بِالْمَلَائِكَةِ فِعْلًا فَمَا يَكُونُ إِلَّا جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ سَبَبِ النَّصْرِ أَوْ فَرْدًا مِنْ أَفْرَادِهِ، وَمِنْهُ إِلْقَاءُ الرُّعْبِ وَالْخَوْفِ فِي قُلُوبِ الْأَعْدَاءِ، وَمِنْهُ سَائِرُ الْأَسْبَابِ الْمَعْرُوفَةِ مِنَ الصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ وَحُسْنِ التَّدْبِيرِ وَمَعْرِفَةِ الْمَوَاقِعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
سَلَكَ إِلَى أُحُدٍ أَقْرَبَ الطُّرُقِ وَأَخْفَاهَا عَنِ الْعَدُوِّ، وَعَسْكَرَ فِي أَحْسَنِ مَوْضِعٍ وَهُوَ الشِّعْبُ (الْوَادِي) ، وَجَعَلَ ظَهْرَ عَسْكَرِهِ إِلَى الْجَبَلِ، وَجَعَلَ الرُّمَاةَ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَلَمَّا اخْتَلَّ بَعْضُ هَذِهِ التَّدْبِيرَاتِ لَمْ يَنْتَصِرُوا.
وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ السَّيْرِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَاتَلَتْ يَوْمَ أُحُدٍ، وَهُوَ مَا نَفَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَدْ ذَكَرْنَا عِبَارَتَهُ، بَلْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تُقَاتِلْ إِلَّا يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِيمَا عَدَاهُ كَانُوا عَدَدًا وَمَدَدًا لَا يُقَاتِلُونَ. وَأَنْكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ قِتَالَ الْمَلَائِكَةِ وَقَالَ: إِنَّ الْمَلَكَ الْوَاحِدَ يَكْفِي فِي إِهْلَاكِ أَهْلِ الْأَرْضِ كَمَا فَعَلَ جِبْرِيلُ بِمَدَائِنِ قَوْمِ لُوطٍ ; فَإِذَا حَضَرَ هُوَ يَوْمَ بَدْرٍ فَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى مُقَاتَلَةِ النَّاسِ مَعَ الْكُفَّارِ؟ وَبِتَقْدِيرِ حُضُورِهِ أَيُّ فَائِدَةٍ فِي إِرْسَالِ سَائِرِ الْمَلَائِكَةِ؟ وَأَيْضًا فَإِنَّ أَكَابِرَ الْكُفَّارِ كَانُوا مَشْهُورِينَ، وَقَاتَلَ كُلٌّ مِنْهُمْ مَنِ الصَّحَابَةِ مَعْلُومٌ، وَأَيْضًا لَوْ قَاتَلُوا فَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا بِحَيْثُ يَرَاهُمُ النَّاسُ أَوَّلًا، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمُشَاهَدُ مِنْ عَسْكَرِ الرَّسُولِ ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَأَكْثَرَ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ خِلَافُ قَوْلِهِ: وَيُقْلِلْكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [٨: ٤٤] وَلَوْ كَانُوا فِي غَيْرِ صُورَةِ النَّاسِ لَزِمَ وُقُوعُ الرُّعْبِ الشَّدِيدِ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ، وَعَلَى الثَّانِي كَانَ يَلْزَمُ جَزُّ الرُّءُوسِ وَتَمَزُّقُ الْبُطُونِ وَإِسْقَاطُ الْكُفَّارِ مِنْ غَيْرِ مُشَاهَدَةِ فَاعِلٍ، وَمِثْلُ هَذَا يَكُونُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُعْجِزَاتِ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَتَوَاتَرَ وَيَشْتَهِرَ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ وَالْمُوَافِقِ وَالْمُخَالِفِ.
وَأَيْضًا إِنَّهُمْ لَوْ كَانُوا أَجْسَامًا كَثِيفَةً وَجَبَ أَنْ يَرَاهُمُ الْكُلُّ، وَإِنْ كَانُوا أَجْسَامًا لَطِيفَةً هَوَائِيَّةً فَكَيْفَ ثَبَتُوا عَلَى الْخُيُولِ؟ اهـ. ذَكَرَ ذَلِكَ الرَّازِيُّ وَالنَّيْسَابُورِيُّ، فَالرَّازِيُّ أَوْرَدَ هَذَا عَنِ الْأَصَمِّ وَذَكَرَ حُجَجَهُ مُفَصَّلَةً كَعَادَتِهِ بِقَوْلِهِ: الْحُجَّةُ الْأُولَى - الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ إِلَخْ، وَلَخَّصَهُ النَّيْسَابُورِيُّ عَنْهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَاعْتَرَضَ الرَّازِيُّ عَلَيْهِ بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا إِنَّمَا يَصْدُرُ مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُرَدَّ عَلَيْهِ بِمَا يَدْفَعُ هَذِهِ الْحُجَجَ أَوْ يُبَيِّنُ لَهَا مَخْرَجًا.
لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ نَصٌّ نَاطِقٌ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَاتَلَتْ بِالْفِعْلِ فَيَحْتَجُّ بِهِ الرَّازِيُّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ، وَإِنَّمَا جَاءَ ذِكْرُ الْمَلَائِكَةِ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ عَلَى أَنَّهَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - بِإِمْدَادِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ،
وَفَسَّرَ هَذَا الْإِمْدَادَ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [٨: ١٢] قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي مَعْنَى التَّثْبِيتِ (ج ٩ ص ١٩٧)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute