" يَقُولُ قَوَّوْا عَزْمَهُمْ وَصَحَّحُوا نِيَّاتِهِمْ فِي قِتَالِ عَدُوِّهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ مَعُونَتَهُمْ إِيَّاهُمْ بِقِتَالِ أَعْدَائِهِمْ " فَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ جَزَمَ بِأَنَّ عَمَلَ الْمَلَائِكَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِنَّمَا كَانَ مَوْضُوعُهُ الْقُلُوبَ بِتَقْوِيَةِ عَزِيمَتِهَا، وَتَصْحِيحِ نِيَّتِهَا، وَذَكَرَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ بِمَعُونَتِهِمْ فِي الْقِتَالِ بِصِيغَةٍ تَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ " قِيلَ " وَجُعِلَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ إِلَخْ مِنْ تَتِمَّةِ خِطَابِ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ يَجْعَلُهُ بَيَانًا لِمَا تُثَبِّتُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ النُّفُوسَ، أَيْ إِنَّهَا تُلْقِي فِيهَا اعْتِقَادَ إِلْقَاءِ اللهِ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ إِلَخْ.
وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قَالَهُ الْأَصَمُّ وَلَا يَبْقَى مَحَلٌّ لِحُجَجِهِ فَإِنَّهُ لَا يُنْكَرُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَرْوَاحٌ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهَا اتِّصَالٌ مَا بِأَرْوَاحِ بَعْضِ الْبَشَرِ وَتَأْثِيرٌ فِيهَا بِالْإِلْهَامِ أَوْ تَقْوِيَةِ الْعَزَائِمِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى كَمَا قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
هَذَا مَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَسَيَأْتِي بَسْطُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ - إِنْ أَحْيَانَا اللهُ تَعَالَى - وَأَمَّا يَوْمُ أُحُدٍ فَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ إِمْدَادٌ بِالْمَلَائِكَةِ وَلَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ اللهُ عَنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ لِأَصْحَابِهِ وَجَعَلَ الْوَعْدَ بِهِ مُعَلَّقًا عَلَى ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى وَإِتْيَانِ الْأَعْدَاءِ مِنْ فَوْرِهِمْ، وَلَمْ تَتَحَقَّقْ هَذِهِ الشُّرُوطُ فَلَمْ يَحْصُلِ الْإِمْدَادُ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَلَكِنَّ الْقَوْلَ أَفَادَ الْبِشَارَةَ وَالطُّمَأْنِينَةَ.
وَبَقِيَ أَنْ يُقَالَ: مَا الْحِكْمَةُ وَمَا السَّبَبُ فِي إِمْدَادِ اللهِ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ بَدْرٍ بِمَلَائِكَةٍ يُثَبِّتُونَ قُلُوبَهُمْ وَحِرْمَانِهِمْ مِنْ ذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ حَتَّى أَصَابَ الْعَدُوُّ مِنْهُمْ مَا أَصَابَ؟ .
وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ يُعْلَمُ مِنِ اخْتِلَافِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَيْنَكِ الْيَوْمَيْنِ فَنَذْكُرُهُ هُنَا مُجْمَلًا مَعَ بَيَانِ فَلْسَفَتِهِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَنَدَعُ التَّفْصِيلَ فِيهِ إِلَى تَفْسِيرِ الْآيَاتِ هُنَا وَفِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ، فَإِنَّ مَا هُنَا تَفْصِيلٌ لِمَا فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ مِنَ الْحِكَمِ، وَمَا فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ تَفْصِيلٌ لِمَا كَانَ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ مِنْ ذَلِكَ.
كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ بَدْرٍ فِي قِلَّةٍ وَذِلَّةٍ مِنَ الضَّعْفِ وَالْحَاجَةِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمُ اعْتِمَادٌ إِلَّا عَلَى اللهِ - تَعَالَى - وَمَا وَهَبَهُمْ مِنْ قُوَّةٍ فِي أَبْدَانِهِمْ وَنُفُوسِهِمْ، وَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ الثَّبَاتِ وَالذِّكْرِ إِذْ قَالَ: إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [٨: ٤٥] فَبَذَلُوا كُلَّ قُوَاهُمْ وَامْتَثَلُوا أَمْرَ رَبِّهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ فِي نُفُوسِهِمِ اسْتِشْرَافٌ إِلَى شَيْءٍ مَا غَيْرَ نَصْرِ اللهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ وَالذَّوْدِ عَنْ نَبِيِّهِ لَا فِي أَوَّلِ الْقِتَالِ وَلَا فِي أَثْنَائِهِ، فَكَانَتْ أَرْوَاحُهُمْ بِهَذَا الْإِيمَانِ وَهَذَا الصَّفَاءِ قَدْ عَلَتْ وَارْتَقَتْ حَتَّى اسْتَعَدَّتْ لِقَبُولِ الْإِلْهَامِ مِنْ أَرْوَاحِ الْمَلَائِكَةِ وَالتَّقْوَى بِنَوْعٍ مَا مِنَ الِاتِّصَالِ بِهَا.
وَأَمَّا يَوْمَ أُحُدٍ فَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنَ الِافْتِتَانِ بِمَا كَانَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَلِذَلِكَ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْهُمْ أَنْ تَفْشَلَا، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمَّا تَثَبَّتُوا وَبَاشَرُوا الْقِتَالَ انْتَصَرُوا وَهَزَمُوا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute