للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قِيَاسَاتُهَا مَعَهَا مِنَ الْمَعْقُولَاتِ الْمَحْضَةِ، وَالتَّجْرِيبِيَّاتِ وَالْحَدْسِيَّاتِ يَشْتَرِكُ فِيهَا الْعَقْلُ وَالْبَصَرُ، وَالْقِسْمُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْمُشَاهَدَاتِ سَبِيلُ الْإِدْرَاكِ فِيهِ الْبَصَرُ، فَالْعُقُولُ وَالْأَبْصَارُ بِمَنْزِلَةِ يَنَابِيعَ كَثِيرَةٍ تَنْبَجِسُ مِنْ كُلٍّ مِنْهَا عُيُونٌ لِلْعَلَمِ مُخْتَلِفَةٌ، بِخِلَافِ السَّمْعِ فَإِنَّهُ يَنْبُوعٌ وَاحِدٌ لَا اخْتِلَافَ فِيمَا يَصْدُرُ عَنْهُ) فَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْعُقُولَ وَالْأَبْصَارَ تَتَصَرَّفُ فِي مُدْرَكَاتٍ كَثِيرَةٍ فَكَأَنَّهَا صَارَتْ بِذَلِكَ كَثِيرَةً فَجُمِعَتْ، وَأَمَّا السَّمْعُ فَلَا يُدْرِكُ إِلَّا شَيْئًا وَاحِدًا فَأُفْرِدَ.

سَأَلَهُ سَائِلٌ: كَيْفَ هَذَا، وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ السَّمْعَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَصَرِ؟ فَقَالَ: أَنَا لَا أَتَكَلَّمُ فِي التَّفْضِيلِ، ذَلِكَ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنَّمَا أَشْرَحُ مَوْجُودًا وَأُبَيِّنُ مُنَاسَبَةَ اللَّفْظِ لَهُ، (وَإِنَّ الْمُشَاهَدَةَ قَاضِيَةٌ بِأَنَّ الْعَقْلَ لَا مُنْتَهَى لِتَصَرُّفِهِ، وَبِأَنَّ أَقَلَّ مَا قِيلَ فِي الْبَصَرِ: إِنَّهُ يُدْرِكُ الْأَلْوَانَ، وَالْأَشْكَالَ، وَالْمَقَادِيرَ. وَالسَّمْعُ: لَا يُدْرِكُ إِلَّا الْأَصْوَاتَ فَقَطْ، كَمَا أَنَّ الذَّوْقَ لَا يُحِسُّ إِلَّا بِالْمَذُوقَاتِ وَحْدَهَا، وَإِنْ كَانَ مَا يَصِلُ مِنْ طَرِيقِ السَّمْعِ قَدْ يَتَضَمَّنُ حِكَايَةً عَنْ مَعْقُولٍ أَوْ مُبْصِرٍ، وَلَكِنَّ وُرُودَهُ عَلَى الْحِكَايَةِ لَا يُغَيِّرُ مِنْ حَقِيقَتِهِ، فَهُوَ مَعْقُولٌ أَوْ مُبْصَرٌ، فَمَنْ ذَكَرَ لَكَ بُرْهَانًا عَلَى حَقِيقَةٍ عِلْمِيَّةٍ فَإِنَّمَا تَسْمَعُ مِنْهُ الْأَصْوَاتِ وَالْحُرُوفَ، وَأَمَّا فَهْمُكَ الْمُقَدَّمَاتِ وَوُصُولُكَ مِنْهَا إِلَى النَّتَائِجِ فَهُوَ مِنْ طَرِيقِ عَقْلِكَ لَا مِنْ طَرِيقِ سَمْعِكَ، فَإِنْ كَانَ حَدِيثُ الْأَفْضَلِيَّةِ يَسْتَنِدُ إِلَى أَنَّ جَمِيعَ الْمُدْرَكَاتِ قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهَا بِالْكَلَامِ - وَهُوَ مَسْمُوعٌ - فَقَدْ بَيَّنَّا لَكَ مَا فِيهِ، وَيُعَارِضُهُ أَنَّ جَمِيعَ ضُرُوبِ الْكَلَامِ يَصِحُّ أَنْ تُكْتَبُ، وَطَرِيقُ فَهْمِهَا مِنَ الرَّقْمِ

إِنَّمَا هُوَ الْبَصَرُ، وَالْحَقُّ: أَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ فِي تَعَدُّدِ الطَّرِيقِ لَيْسَ مَا يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْحِكَايَةِ، بَلْ مَا يَكُونُ مِنْ طَبِيعَةِ الْقُوَّةِ) .

وَأَمَّا انْطِبَاقُ الْكَلَامِ عَلَى تِلْكَ الْأَقْسَامِ السَّابِقَةِ وَبَيَانُ حِرْمَانِهِمْ وَكَوْنِهِمْ كَمَا وُصِفُوا - فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الطَّائِفَةِ الَّتِي عَانَدَتِ الْحَقَّ وَهِيَ تَعْرِفُهُ - ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَانَدُوا الْحَقَّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَلَى أَيْدِيهِمْ (فَقَدْ طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِطَابَعِ ذَلِكَ الْعِنَادِ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ حِيلَ بَيْنَ عُقُولِهِمْ وَإِدْرَاكِ مَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ بِالْإِصْرَارِ عَلَى الْبَاطِلِ مِنْ ضَعْفِ أَمْرٍ وَفَسَادِ حَالٍ فِي الدُّنْيَا، وَشَقَاءٍ وَخُلُودٍ فِي نَكَالِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ هُمْ قَدْ حُجِبُوا بِهِ عَنْ إِدْرَاكِ مَا يَتْبَعُ) ذَلِكَ الْحَقَّ مِنَ الْمَعَارِفِ وَالْحَقَائِقِ الْأُخْرَى، فَقَدْ خُتِمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا حُجِبُوا عَنْهُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>