للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَأَمَّا الْخَتْمُ عَلَى سَمْعِهِمْ، فَلِأَنَّهُمْ صَمُّوا عَنْ سَمَاعِ الْحَقِّ وَاسْتِمَاعِ الْقَوْلِ لِفَهْمِهِ، فَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ فَهْمِ الْحَقِّ فَهُوَ لَمْ يَسْمَعْ إِلَّا صَوْتًا لَمْ يَنْفُذْ شَيْءٌ مِنْ مَعْنَاهُ إِلَى مَوْضِعِ الْإِدْرَاكِ الْحَقِيقِيِّ مِنْهُ، فَقَدْ خُتِمَ عَلَى سَمْعِهِ فَلَا يَنْفُذُ إِلَيْهِ شَيْءٌ يَنْتَفِعُ بِهِ.

وَأَمَّا الْأَبْصَارُ فَإِنَّمَا كَانَتْ عَلَيْهَا غِشَاوَاتٌ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْجَاحِدِينَ؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْبَصَرِ: هِيَ التَّوَقِّي مِنَ الْخَطَرِ، وَالْعِبْرَةُ بِمَا يُبْصَرُ، فَمَنْ لَمْ يَنْظُرْ فِي الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي تَقَعُ تَحْتَ بَصَرِهِ كُلَّ يَوْمٍ كَأَنَّهُ لَمْ يُبْصِرْ شَيْئًا مِنْهَا، فَقَدْ ضُرِبَ عَلَى بَصَرِهِ بِغِشَاوَةٍ، (وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقِسْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ اللَّذَيْنِ جُمِعَا تَحْتَ قِسْمٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ قِسْمُ الْمُعْرِضِينَ الْجَاحِدِينَ الْجَاهِلِينَ كَمَا سَبَقَ، فَالْخَتْمُ عَلَى الْقُلُوبِ وَالسَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْقُوَى حَتَّى فِي فَهْمِ مَا يُعْرَضُ عَلَيْهِمْ، وَرُؤْيَةِ مَا يَقَعُ تَحْتَ حَوَاسِّهِمْ) وَالْكَلَامُ كُلُّهُ ضَرْبٌ مِنَ التَّمْثِيلِ يَعْرِفُهُ اللِّسَانُ وَتَعْهَدُهُ اللُّغَةُ، وَالْمَعْنَى هُوَ مَا بَيَّنَّا وَاللهُ أَعْلَمُ. (وَلَمَّا كَانَ حَدِيثُ الْخَتْمِ تَمْثِيلًا لِفَقْدِ حَقِيقَةِ الْفَهْمِ وَالْحِرْمَانِ مِنْ فَوَائِدِ تِلْكَ الْمَوَاهِبِ الْإِلَهِيَّةِ - مَوَاهِبِ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ وَالْإِبْصَارِ - كَانَ إِسْنَادُهُ إِلَى اللهِ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى الْحِرْمَانِ، وَتَقْدِيرًا لِمُصِيبَةِ الْخُسْرَانِ؛ لِأَنَّ مَا خُتِمَ بِيَدِ اللهِ لَا تَفُضُّهُ يَدٌ سِوَاهُ) .

وَأَمَّا النُّكْتَةُ فِي اسْتِعْمَالِ الْخَتْمِ مَعَ الْقُلُوبِ وَالسَّمْعِ، وَالْغِشَاوَةِ مَعَ الْبَصَرِ: فَهِيَ أَنَّ الْخَتْمَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمَكْنُونِ الْمَسْتُورِ، وَهَكَذَا مَوْضِعُ حِسِّ السَّمْعِ، وَمَوْضِعُ الْإِدْرَاكِ مِنَ الْعَقْلِ، وَالْأَسْمَاعُ فِي ظَاهِرِ الْخِلْقَةِ، وَأَمَّا الْبَصَرُ فَالْحَاسَّةُ مِنْهُ

ظَاهِرَةٌ مُنْكَشِفَةٌ (قَالَ) : وَمِثْلُ هَذِهِ الدَّقَائِقِ هِيَ الْمُرَادَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ التَّلْخِيصِ: " وَلِكُلِّ كَلِمَةٍ مَعَ صَاحِبَتِهَا مَقَامٌ ".

(وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) أَقُولُ: الْعَذَابُ اسْمٌ لِمَا يُؤْلِمُ وَيَذْهَبُ بِعُذُوبَةِ الْحَيَاةِ مِنْ ضَرْبٍ وَوَجَعٍ وَجُوعٍ وَظَمَأٍ. قَالَ الرَّاغِبُ: وَاخْتُلِفَ فِي أَصْلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَذَبَ الرَّجُلُ إِذَا تَرَكَ الْمَأْكَلَ (زَادَ غَيْرُهُ: مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ) وَالنَّوْمَ، فَهُوَ عَاذِبٌ وَعَذُوبٌ، فَالتَّعْذِيبُ فِي الْأَصْلِ: هُوَ حَمْلُ الْإِنْسَانِ أَنْ يُعَذَّبَ، أَيْ يَجُوعُ وَيَسْهَرُ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ مِنَ الْعَذْبِ، فَعَذَّبْتُهُ: أَزَلْتُ عَذْبَ حَيَاتِهِ، عَلَى بِنَاءِ: مَرَّضْتُهُ وَقَذَيْتُهُ، وَقِيلَ أَصْلُ التَّعْذِيبِ: إِكْثَارُ الضَّرْبِ بِعَذْبَةِ السَّوْطِ أَيْ طَرَفِهِ اهـ.

وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: الْعَذَابُ كَالنَّكَالِ بِنَاءً وَمَعْنًى، تَقُولُ: أَعْذَبَ عَنِ الشَّيْءِ وَنَكَلَ عَنْهُ إِذَا أَمْسَكَ، وَمِنْهُ الْمَاءُ الْعَذْبُ؛ لِأَنَّهُ يَقْمَعُ الْعَطَشَ وَيَرْدَعُهُ، وَلِذَلِكَ يُسَمَّى نُقَاخًا وَفُرَاتًا ثُمَّ اتَّسَعَ فَأُطْلِقَ عَلَى كُلِّ أَلَمٍ فَادِحٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِقَابًا يَرْدَعُ الْجَانِيَ عَنِ الْمُعَاوَدَةِ إِلَخْ.

وَالْعَظِيمُ: ضِدُّ الْحَقِيرِ، فَهُوَ فَوْقَ الْكَبِيرِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الصَّغِيرِ، وَتَنْكِيرُ الْعَذَابِ هُنَا

<<  <  ج: ص:  >  >>