للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فِي مِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا [٣٥: ٤٣] وَصَرَّحَ فِي سُوَرٍ أُخْرَى كَمَا صَرَّحَ هُنَا بِأَنَّ سُنَنَهُ لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ كَسُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَسُورَةِ الْأَحْزَابِ وَسُورَةِ الْفَتْحِ.

هَذَا إِرْشَادٌ إِلَهِيٌّ، لَمْ يُعْهَدْ فِي كِتَابٍ سَمَاوِيٍّ، وَلَعَلَّهُ أُرْجِئَ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ الْإِنْسَانُ كَمَالَ اسْتِعْدَادِهِ الِاجْتِمَاعِيِّ، فَلَمْ يَرِدْ إِلَّا فِي الْقُرْآنِ، الَّذِي خَتَمَ اللهُ بِهِ الْأَدْيَانَ.

كَانَ الْمِلِّيُّونَ مِنْ جَمِيعِ الْأَجْيَالِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ أَفْعَالَ اللهِ - تَعَالَى - فِي خَلْقِهِ تُشْبِهُ أَفْعَالَ الْحَاكِمِ الْمُسْتَبِدِّ فِي حُكُومَتِهِ، الْمُطْلَقِ فِي سُلْطَتِهِ، فَهُوَ يُحَابِي بَعْضَ النَّاسِ فَيَتَجَاوَزُ لَهُمْ عَمَّا يُعَاقِبُ لِأَجْلِهِ غَيْرَهُمْ، وَيُثِيبُهُمْ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي لَا يَقْبَلُهُ مِنْ سِوَاهُمْ، لِمُجَرَّدِ

دُخُولِهِمْ فِي عُنْوَانٍ مُعَيَّنٍ، وَانْتِمَائِهِمْ إِلَى نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، وَيَنْتَقِمُ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ الْعُنْوَانُ، أَوْ لَمْ يَتَّفِقْ لَهُمُ الِانْتِمَاءُ إِلَى ذَلِكَ الْإِنْسَانِ.

هَذَا مَا كَانُوا يَظُنُّونَ فِي دِينِهِمْ وَيُسْنِدُونَهُ إِلَى مَشِيئَةِ اللهِ الْمُطْلَقَةِ، مِنْ غَيْرِ تَفْكِيرٍ فِي حِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ، وَتَطْبِيقِهَا عَلَى سُنَنِهِ الْعَادِلَةِ، فَإِنْ نَبَّهَهُمْ مُنَبِّهٌ إِلَى مَا يُصِيبُهُمْ بَلْ مَا أَصَابَ أَنْبِيَاءَهُمْ مِنَ الْبَلَاءِ، قَالُوا إِنَّهُ - تَعَالَى - يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَذَلِكَ رَفْعُ دَرَجَاتٍ أَوْ تَكْفِيرٌ لِلسَّيِّئَاتِ وَأَشْبَاهُ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي يَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ حَقُّهُ بِبَاطِلِهِ، وَيَلْتَبِسُ عَلَيْهِمْ حَالِيهِ بِعَاطِلِهِ، وَقَدْ كَانَ وَمَا زَالَ عِلَّةَ غُرُورِ أَصْحَابِهِ بِدِينِهِمْ، وَاحْتِقَارِهِمْ لِكُلِّ مَا عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ، فَجَاءَ الْقُرْآنُ يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ أَنَّ مَشِيئَةَ اللهِ - تَعَالَى - فِي خَلْقِهِ إِنَّمَا تَنْفُذُ عَلَى سُنَنٍ حَكِيمَةٍ وَطَرَائِقَ قَوِيمَةٍ، فَمَنْ سَارَ عَلَى سُنَّتِهِ فِي الْحَرْبِ - مَثَلًا - ظَفِرَ بِمَشِيئَةِ اللهِ وَإِنْ كَانَ مُلْحِدًا أَوْ وَثَنِيًّا، وَمَنْ تَنَكَّبَهَا خَسِرَ وَإِنْ كَانَ صِدِّيقًا أَوْ نَبِيًّا، وَعَلَى هَذَا يَتَخَرَّجُ انْهِزَامُ الْمُسْلِمِينَ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ حَتَّى وَصَلَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَشَجُّوا رَأْسَهُ، وَكَسَرُوا سِنَّهُ، وَأَرْدَوْهُ فِي تِلْكَ الْحُفْرَةِ ; كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُهُ فِي الْآيَاتِ اللَّاحِقَةِ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ أَجْدَرُ النَّاسِ بِمَعْرِفَةِ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْأُمَمِ، وَأَحَقُّ النَّاسِ بِالسَّيْرِ عَلَى طَرِيقِهَا بَيْنَ الْأُمَمِ ; لِذَلِكَ لَمْ يَلْبَثْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ ثَابُوا يَوْمَئِذٍ إِلَى رُشْدِهِمْ، وَتَرَاجَعُوا لِلدِّفَاعِ عَنْ نَبِيِّهِمْ، وَثَبَتُوا حَتَّى انْجَلَى عَنْهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَلَمْ يَنَالُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَقْصِدُونَ.

وَكَأَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُونُوا قَدْ حَفِظُوا مَا وَرَدَ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ مِنْ إِثْبَاتِ سُنَنِ اللهِ فِي خَلْقِهِ وَكَوْنِهَا لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ كَسُورَةِ الْحِجْرِ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفِ وَالْمَلَائِكَةِ أَوْ فَاطِرٍ وَهِيَ الَّتِي ذَكَرْنَا بَعْضَهَا آنِفًا وَأَشَرْنَا إِلَى بَعْضٍ - أَوْ حَفِظُوا وَلَمْ يَفْقَهُوهُ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمُ انْطِبَاقُهُ عَلَى مَا وَقَعَ لَهُمْ فِي أُحُدٍ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ الْآتِي: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [٣: ١٦٥] لِذَلِكَ صَرَّحَ لَهُمْ فِي بَدْءِ الْآيَاتِ الَّتِي تُبَيِّنُ لَهُمْ سُنَنَهُ أَنَّ لَهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>