سُنَنًا عَامَّةً جَرَى عَلَيْهَا نِظَامُ الْأُمَمِ مِنْ قَبْلُ. وَأَنَّ مَا وَقَعَ لَهُمْ مِمَّا يَقُصُّ حِكْمَتَهُ عَلَيْهِمْ هُوَ مُطَابِقٌ لِتِلْكَ السُّنَنِ الَّتِي لَا تَتَحَوَّلُ وَلَا تَتَبَدَّلُ.
وَلَمَّا كَانَ التَّعْلِيمُ بِالْقَوْلِ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ تَطْبِيقٍ عَلَى الْوَاقِعِ مِمَّا يُنْسَى أَوْ يَقِلُّ الِاعْتِبَارُ
بِهِ نَبَّهَهُمْ عَلَى هَذَا التَّطْبِيقِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى تَطْبِيقِهِ عَلَى أَحْوَالِ الْأُمَمِ الْأُخْرَى فَقَالَ: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ إِنَّ الْمُصَارَعَةَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ قَدْ وَقَعَتْ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَكَانَ أَهْلُ الْحَقِّ يَغْلِبُونَ أَهْلَ الْبَاطِلِ وَيُنْصَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى (أَيِ اتِّقَاءَ مَا يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ فِي الْحَرْبِ بِحَسَبِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَدَرَجَةِ اسْتِعْدَادِ الْأَعْدَاءِ) وَكَانَ ذَلِكَ يَجْرِي بِأَسْبَابٍ مُطَّرِدَةٍ وَعَلَى طَرَائِقَ مُسْتَقِيمَةٍ، يُعْلَمُ مِنْهَا أَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ إِذَا حَافَظَ عَلَيْهِ يُنْصَرُ وَيَرِثُ الْأَرْضَ، وَإِنَّ مَنْ يَنْحَرِفُ عَنْهُ وَيَعِيثُ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا يُخْذَلُ وَتَكُونُ عَاقِبَتُهُ الدَّمَارَ، فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ وَاسْتَقْرُوا مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ لِيَحْصُلَ لَكُمُ الْعِلْمُ الصَّحِيحُ التَّفْصِيلِيُّ بِذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْيَقِينُ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: أَيْ إِنْ لَمْ تُصَدِّقُوا فَسِيرُوا. وَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ.
قَالَ: وَالسَّيْرُ فِي الْأَرْضِ وَالْبَحْثُ عَنْ أَحْوَالِ الْمَاضِينَ وَتَعَرُّفُ مَا حَلَّ بِهِمْ هُوَ الَّذِي يُوصِلُ إِلَى مَعْرِفَةِ تِلْكَ السُّنَنِ وَالِاعْتِبَارِ بِهَا كَمَا يَنْبَغِي. نَعَمْ: إِنَّ النَّظَرَ فِي التَّارِيخِ الَّذِي يَشْرَحُ مَا عَرَفَهُ الَّذِينَ سَارُوا فِي الْأَرْضِ وَرَأَوْا آثَارَ الَّذِينَ خَلَوْا يُعْطِي الْإِنْسَانَ مِنَ الْمَعْرِفَةِ مَا يَهْدِيهِ إِلَى تِلْكَ السُّنَنِ وَيُفِيدُهُ عِظَةً وَاعْتِبَارًا وَلَكِنْ دُونَ اعْتِبَارِ الَّذِي يَسِيرُ فِي الْأَرْضِ بِنَفْسِهِ وَيَرَى الْآثَارَ بِعَيْنِهِ وَلِذَلِكَ أَمَرَ بِالسَّيْرِ وَالنَّظَرِ ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ مَعَ زِيَادَةٍ تَتَخَلَّلُهُ: كَأَنَّهُ يَقُولُ إِنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ لَهُ عَقْلٌ يَعْتَبِرُ بِهِ، فَهُوَ يَفْهَمُ أَنَّ السَّيْرَ فِي الْأَرْضِ يَدُلُّهُ عَلَى تِلْكَ السُّنَنِ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُتَّقِيَ أَجْدَرُ بِفَهْمِهَا لِأَنَّ كِتَابَهُ أَرْشَدَهُ إِلَيْهَا وَأَجْدَرُ كَذَلِكَ بِالِاهْتِدَاءِ وَالِاتِّعَاظِ بِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ أَنَّ لِسَيْرِ النَّاسِ فِي الْحَيَاةِ سُنَنًا يُؤَدِّي بَعْضُهَا إِلَى الْخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ وَبَعْضُهَا إِلَى الْهَلَاكِ وَالشَّقَاءِ وَأَنَّ مَنْ يَتَّبِعُ تِلْكَ السُّنَنَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى غَايَتِهَا سَوَاءٌ كَانَ مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا، كَمَا قَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ: إِنَّ هَؤُلَاءِ قَدِ انْتَصَرُوا بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَخُذِلْتُمْ بِتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ. وَمِنْ هَذِهِ السُّنَنِ أَنَّ اجْتِمَاعَ النَّاسِ وَتَوَاصُلَهُمْ وَتَعَاوُنَهُمْ عَلَى طَلَبِ مَصْلَحَةٍ مِنْ مَصَالِحِهِمْ يَكُونُ - مَعَ الثَّبَاتِ - مِنْ أَسْبَابِ نَجَاحِهِمْ وَوُصُولِهِمْ إِلَى مَقْصِدِهِمْ سَوَاءٌ كَانَ مَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا، وَإِنَّمَا يَصِلُونَ إِلَى مَقْصِدِهِمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَيَكُونُ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ
الْبَاطِلِ قَدْ ثَبَتَ بِاسْتِنَادِهِ إِلَى مَا مَعَهُمْ مِنَ الْحَقِّ وَهُوَ فَضِيلَةُ الِاجْتِمَاعِ وَالتَّعَاوُنِ وَالثَّبَاتِ، فَالْفَضَائِلُ لَهَا عِمَادٌ مِنَ الْحَقِّ، فَإِذَا قَامَ رَجُلٌ بِدَعْوَى بَاطِلَةٍ وَلَكِنْ رَأَى جُمْهُورٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُ مُحِقٌّ يَدْعُو إِلَى شَيْءٍ نَافِعٍ وَأَنَّهُ يَجِبُ نَصْرُهُ فَاجْتَمَعُوا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute