للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَالَ هُنَا مُوَضِّحًا قَوْلَ الْجُمْهُورِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ عِلْمُ الظُّهُورِ، قَالُوا: إِنَّ الْعِلْمَ بِالشَّيْءِ عَلَى أَنَّهُ سَيَقَعُ ثَابِتٌ فِي الْأَزَلِ فَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ الشَّيْءُ حَصَلَ تَغَيُّرٌ فِي ذَلِكَ الْمَعْلُومِ فَصَارَ حَالًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُسْتَقْبَلًا، فَهَلْ تَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِهِ عِنْدَ الْوُقُوعِ هُوَ عَيْنُ تَعَلُّقِهِ بِهِ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى قُبَيْلِ وُقُوعِهِ؟ قَالَ الْحُكَمَاءُ: إِنَّ الْزَمَنَ لَيْسَ بِشَيْءٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللهِ فَلَيْسَ هُنَاكَ تَقَدُّمٌ وَلَا تَأَخُّرٌ وَلَا مُتَقَدِّمٌ وَلَا مُتَأَخِّرٌ، فَتَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِالْمَعْلُومِ وَاحِدٌ فِي الْأَزَلِ وَالْأَبَدِ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ مَعْنَى وَلِيَعْلَمَ اللهُ لِيُظْهِرَ عِلْمَهُ لِلنَّاسِ بِظُهُورِ الْمَعْلُومِ لَهُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [٨: ٣٧] أَيْ يَعْلَمُ النَّاسُ ذَلِكَ وَيُمَيِّزُونَهُ.

وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ فَيَقُولُونَ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ أَزَلًا وَأَبَدًا، وَلَكِنَّ تَعَلُّقَ عِلْمِهِ بِالْأَشْيَاءِ عَلَى أَنَّهَا سَتَقَعُ غَيْرُ تَعَلُّقِ عِلْمِهِ بِهَا وَهِيَ وَاقِعَةٌ، فَذَلِكَ عِلْمٌ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِيهِ الْمَعْلُومُ فِي الْوُجُودِ، وَهَذَا عِلْمٌ ظَهَرَ مُتَعَلِّقُهُ وَوُجِدَ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: " وَلِيَعْلَمَ " الثَّانِي.

أَقُولُ: وَكُنْتُ أُقَرِّرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ قَبْلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَأُعَبِّرُ تَارَةً بِعِلْمِ الْغَيْبِ وَعِلْمِ الشَّهَادَةِ مُفَسِّرًا عِلْمَ الْغَيْبِ بِمَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ الْمَعْلُومُ وَعِلْمَ الشَّهَادَةِ بِمَا ظَهَرَ فِيهِ الْمَعْلُومُ وَوُجِدَ. وَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلْأُسْتَاذِ فِي الدَّرْسِ، فَقَالَ: إِنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِعِلْمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ مَعْنًى آخَرَ وَكُنْتُ عَازِمًا عَلَى مُرَاجَعَتِهِ فِي ذَلِكَ بَعْدَ الدَّرْسِ فَنَسِيتُ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْعِبَارَةَ ظَاهِرَةُ الصِّحَّةِ وَإِيهَامُ تَجَدُّدِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ مَدْفُوعٌ، وَلَكِنْ مَا النُّكْتَةُ فِي اخْتِيَارِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ وَأَمْثَالِهَا كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا وَلِمَ لَمْ يُبَيِّنِ الْمُرَادَ بِعِبَارَةٍ لَا إِبْهَامَ فِيهَا؟ قَالَ مَا نَصُّهُ: " النُّكْتَةُ بَيَانُ أَنَّ الْعِلْمَ إِذَا لَمْ يُصَدِّقُهُ الْعَمَلُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ " وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ كَثِيرًا مَا يَتَصَوَّرُ الشَّيْءَ وَيَحْكُمُ بِصِحَّتِهِ فَيَرَى أَنَّهُ يَعْتَقِدُهُ، وَلَكِنْ إِذَا عَرَضَ الْعَمَلُ كَذَّبَهُ فِي اعْتِقَادِهِ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ

مُتَحَقِّقًا بِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ صُورَةً انْطَبَعَتْ فِي مُخِّهِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَمَّا يُعَارِضُهَا مِنْ سَائِرِ عَقَائِدِهِ الْمُتَمَكِّنَةِ الَّتِي لَهَا سُلْطَانٌ عَلَى وِجْدَانِهِ وَأَثَرٌ فِي عَمَلِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَعَادَاتِهِ الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهَا أَعْمَالُهُ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ تُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ بِأَنَّهُ شُجَاعٌ، وَيَعْتَقِدُ ذَلِكَ لِعَدَمِ وُجُودِ مَا يُعَارِضُهُ فِي نَفْسِهِ حَتَّى إِذَا مَا عَرَضَ لَهُ مَا تَظْهَرُ بِهِ حَقِيقَةُ الشَّجَاعَةِ بِالْفِعْلِ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى رُكُوبِ الْخَطَرِ وَخَوْضِ غَمَرَاتِ الْمَوْتِ دِفَاعًا عَنِ الْحَقِّ أَوِ الْحَقِيقَةِ جَبُنَ وَجَزِعَ وَظَهَرَ غُرُورُهُ بِنَفْسِهِ وَانْخِدَاعُهُ لِوَهْمِهِ، وَمِثْلُهُ مَنْ تُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ بِأَنَّهُ لِقُوَّةِ إِيمَانِهِ عَظِيمُ الثِّقَةِ بِاللهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، حَتَّى تُظْهِرَ الْحَوَادِثُ وَالْوَقَائِعُ أَنَّهُ هَلُوعٌ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ كَانَ مَنُوًا، لَا يَثِقُ بِرَبِّهِ وَلَا بِنَفْسِهِ. فَأَرَادَ - تَعَالَى - أَنْ يُرْشِدَنَا بِقَوْلِهِ: وَلِيَعْلَمَ إِلَى أَنَّ الْعِلْمَ لَا يَكُونُ عِلْمًا وَالْإِيمَانَ لَا يَكُونُ إِيمَانًا إِلَّا إِذَا صَدَّقَهُمَا الْعَمَلُ وَظَهَرَ أَثَرُهُمَا بِالْفِعْلِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لِيَتَبَيَّنَ الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى طَرِيقِ التَّمْثِيلِ. أَقُولُ: وَأَظْهَرُ مِنْ هَذَا فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ عِلْمَ

<<  <  ج: ص:  >  >>