اللهِ - تَعَالَى - لَا يَكُونُ إِلَّا مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ، فَمَا لَا يَعْلَمُهُ - تَعَالَى - هُوَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ ثَابِتَةٌ وَكُلُّ مَالَهُ حَقِيقَةٌ ثَابِتَةٌ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لَهُ - تَعَالَى -، فَيَكُونُ مَعْنَى وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِيَثْبُتَ وَيَتَحَقَّقَ بِالْفِعْلِ إِيمَانُ الَّذِينَ آمَنُوا أَوْ صِدْقَهُمْ فِي إِيمَانِهِمْ، فَإِنَّهُ مَتَى ثَبَتَ وَتَحَقَّقَ كَانَ اللهُ عَالِمًا بِهِ عَلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ ثَابِتَةٌ، فَأَطْلَقَ أَحَدَ الْمُتَلَازِمَيْنِ وَأَرَادَ بِهِ الْآخَرَ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ الشَّهَادَةِ فِي الْقِتَالِ وَهِيَ أَنْ يُقْتَلَ الْمُؤْمِنُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَيْ مُدَافِعًا عَنِ الْحَقِّ قَاصِدًا إِعْلَاءَ كَلِمَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى النَّاسِ بِالْمَعْنَى الَّذِي تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [٢: ١٤٣] وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي يَسْبِقُ إِلَى الذِّهْنِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَؤُلَاءِ الْمَقْتُولُونَ شُهَدَاءَ لِأَنَّهُمْ يُشَاهِدُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ مِنَ الْمَلَكُوتِ وَنَعِيمِهِ مَا لَا يَكُونُ لِغَيْرِهِمْ أَوْ لِأَنَّهُمْ بِبَذْلِ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَكُونُونَ مِنَ الشُّهَدَاءِ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْمَعْنَى الْمُشَارِ إِلَيْهِ آنِفًا، أَوْ لِأَنَّهُ مَشْهُودٌ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ أَوْ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَشْهَدُ مَوْتَهُمْ. أَقُولُ:
وَقَوْلُهُ: وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ أَنَّ الشُّهَدَاءَ يَكُونُونَ
مِمَّنْ خَلَصُوا لِلَّهِ وَأَخْلَصُوا فِي إِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ فَلَمْ يَظْلِمُوا أَنْفُسَهُمْ بِمُخَالَفَةِ الْأَمْرِ أَوِ النَّهْيِ، وَلَا بِالْخُرُوجِ عَنْ سُنَنِ اللهِ فِي الْخَلْقِ وَأَنَّهُ - تَعَالَى - لَا يَصْطَفِي لِلشَّهَادَةِ الظَّالِمِينَ مَا دَامُوا عَلَى ظُلْمِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ بِشَارَةٌ لِلْمُتَّقِينَ، وَإِنْذَارٌ لِلْمُقَصِّرِينَ، فَالنَّاسُ قَبْلَ الِابْتِلَاءِ بِالْمِحَنِ وَالْفِتَنِ يَكُونُونَ سَوَاءً، فَإِذَا ابْتُلُوا تَبَيَّنَ الْمُخْلِصُ وَالصَّادِقُ وَالظَّالِمُ وَالْمُنَافِقُ وَمَا أَسْهَلَ ادِّعَاءَ الْإِخْلَاصِ وَالصِّدْقِ إِذَا كَانَتْ آيَاتُهُمَا مَجْهُولَةً، فَبَيَانُ السَّبَبِ مُؤَدِّبٌ لِلْمُقَصِّرِينَ وَقَاطِعٌ لِأَلْسِنَةِ الْمُدَّعِينَ، إِلَّا أَنْ يَكُونُوا مَعَ الْأَغْنِيَاءِ الْجَاهِلِينَ.
أَقُولُ: وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ أَعْدَاءَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَا يُحِبُّهُمُ اللهُ، أَيْ لَا يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُحِبِّ لِلْمَحْبُوبِ، لِأَنَّهُمْ يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيُسَفِّهُونَهَا بِعِبَادَةِ الْمَخْلُوقَاتِ وَاجْتِرَاحِ السَّيِّئَاتِ وَيَظْلِمُونَ غَيْرَهُمْ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَالْبَغْيِ عَلَى النَّاسِ وَهَضْمِ حُقُوقِهِمْ، وَالظَّالِمُ لَا تَدُومُ لَهُ سُلْطَةٌ، وَلَا تَثْبُتُ لَهُ دَوْلَةٌ، فَإِذَا أَصَابَ غِرَّةً مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ فَكَانَتْ لَهُ دَوْلَةٌ فِي حَرْبٍ أَوْ حُكْمٍ، فَإِنَّمَا تَكُونُ دَوْلَتُهُ سَرِيعَةَ الزَّوَالِ، قَرِيبَةَ الِانْحِلَالِ وَالِاضْمِحْلَالِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ أَيْضًا بِالْمُنَافِقِينَ فَإِنَّهُمْ أَظْلَمُ الظَّالِمِينَ.
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ قَالَ فِي الْأَسَاسِ: مَحَّصَ الشَّيْءَ مَحْصًا وَمَحَّصَهُ تَمْحِيصًا خَلَّصَهُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، وَمَحَّصَ الذَّهَبَ بِالنَّارِ خَلَّصَهُ مِمَّا يَشُوبُهُ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute