ثُمَّ قَالَ: وَمِنَ الْمَجَازِ مَحَّصَ اللهُ التَّائِبَ مِنَ الذُّنُوبِ، وَمَحَّصَ قَلْبَهُ وَتَمَحَّصَتْ ذُنُوبُهُ وَتَمَحَّصَتِ الظَّلْمَاءُ تَكَشَّفَتْ قَالَ:
حَتَّى بَدَتْ قَمْرَاؤُهُ وَتَمَحَّصَتْ ... ظَلْمَاؤُهُ وَرَأَى الطَّرِيقَ الْمُبْصَرِ
أَقُولُ: وَأَصْلُ الْمَحْقِ النُّقْصَانُ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ وَمِنْهُ الْمِحَاقُ لِآخِرِ الشَّهْرِ، وَقَالَ فِي الْأَسَاسِ: " مَحَقَ الشَّيْءَ مَحَاهُ وَذَهَبَ بِهِ. . وَسَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ لَا يُحْسِنُ الْإِنْسَانُ عَمَلَهُ: قَدْ مَحَقَهُ، وَيَقُولُونَ لِلْهَلَكَةِ: الْمَحْقَةُ " قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ تَمْحِيصَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَارَةٌ عَنْ تَكْفِيرِ ذُنُوبِهِمْ وَمَحْوِ سَيِّئَاتِهِمْ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُهُمْ بِالتَّطْهِيرِ وَالتَّزْكِيَةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمَا مِنَ السَّلَفِ تَفْسِيرُ التَّمْحِيصِ بِالِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ. وَكَأَنَّهُ بَيَانٌ لِمَبْدَئِهِ دُونَ غَايَتِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُمَحِّصُ اللهُ بِالْمَصَائِبِ ذُنُوبَ الْمُؤْمِنِينَ وَبِمَحْقِ نُفُوسِ الْكَافِرِينَ. وَرَدَّ الْأُسْتَاذُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ التَّمْحِيصَ تَكْفِيرُ الذُّنُوبِ بِأَنَّ الْمَعْهُودَ مِنَ الْقُرْآنِ التَّعْبِيرُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِالتَّكْفِيرِ، وَأَنَّ لِلتَّمْحِيصِ هُنَا مَعْنًى آخَرَ يَتَّفِقُ مَعَ
مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي جُمْلَتِهِ لَا فِي تَصْوِيرِهِ. وَصَوَّرَهُ هُوَ بِنَحْوِ مَا يَأْتِي:
كُلُّ إِنْسَانٍ يَحْكُمُ لِنَفْسِهِ فِي نَفْسِهِ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ يُصَدِّقُهُ فِيهَا الْحَقُّ الْوَاقِعُ أَوْ يُكَذِّبُهُ، فَالْمُعْتَقِدُ حَقِّيَّةَ الدِّينِ قَدْ يَتَصَوَّرُ وَقْتَ الرَّخَاءِ أَنَّهُ يَسْهُلُ عَلَيْهِ بَذْلَ مَالِهِ وَنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ لِيَحْفَظَ شَرَفَ دِينِهِ وَيَدْفَعَ عَنْهُ كَيْدَ الْمُعْتَدِينَ، فَإِذَا جَاءَ الْبَأْسُ ظَهَرَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ خِلَافُ مَا كَانَ يَتَصَوَّرُ (وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ آنِفًا) . فَالْإِنْسَانُ يَلْتَبِسُ عَلَيْهِ أَمْرُ نَفْسِهِ فَلَا يَتَجَلَّى كَمَالَ التَّجَلِّي إِلَّا بِالتَّجَارِبِ الْكَثِيرَةِ وَالِامْتِحَانِ بِالشَّدَائِدِ الْعَظِيمَةِ، فَالتَّجَارِبُ وَالشَّدَائِدُ كَتَمْحِيصِ الذَّهَبِ يَظْهَرُ بِهِ زَيْفُهُ وَنُضَارُهُ. ثُمَّ إِنَّهَا أَيْضًا تَنْفِي خَبَثَهُ وَزَغَلَهُ. كَذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِي أُحُدٍ: تَمَيَّزَ الْمُؤْمِنُونَ الصَّادِقُونَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَتَطَهَّرَتْ نُفُوسُ بَعْضِ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ كُدُورَتِهَا فَصَارَتْ تِبْرًا خَالِصًا، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ خَالَفُوا أَمْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَطَمِعُوا فِي الْغَنِيمَةِ، وَالَّذِينَ انْهَزَمُوا وَوَلَّوْا وَهُمْ مُدْبِرُونَ، مَحَّصَ الْجَمِيعَ بِتِلْكَ الشِّدَّةِ فَعَلِمُوا أَنَّ الْمُسْلِمَ مَا خُلِقَ لِيَلْهُوَ وَيَلْعَبَ، وَلَا لِيَكْسَلَ وَيَتَوَاكَلَ، وَلَا لِيَنَالَ الظَّفَرَ وَالسِّيَادَةَ بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَتَبْدِيلِ سُنَنِ اللهِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ بَلْ خُلِقَ لِيَكُونَ أَكْثَرَ النَّاسِ جِدًّا فِي الْعَمَلِ، وَأَشَدَّهُمْ مُحَافَظَةً عَلَى النَّوَامِيسِ وَالسُّنَنِ.
أَقُولُ: وَقَدْ تَجَلَّى أَثَرُ هَذَا التَّمْحِيصِ أَكْمَلَ التَّجَلِّي فِي غَزْوَةِ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ إِذْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلَّا يَتْبَعَ الْمُشْرِكِينَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ الْقِتَالَ بِأُحُدٍ، فَامْتَثَلُوا الْأَمْرَ بِقُلُوبٍ مُطْمَئِنَّةٍ وَعَزَائِمَ شَدِيدَةٍ وَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَبْرِيحِ الْجِرَاحِ بِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. فَلْيَعْتَبِرْ بِهَذَا مُسْلِمُو هَذَا الزَّمَانِ وَلْيَعْلَمُوا مَا هُوَ مِقْدَارُ حَظِّهِمْ مِنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، وَأَمَّا مَحْقُ الْكَافِرِينَ بِالشَّدَائِدِ فَلَيْسَ مَعْنَاهُ فَنَاؤُهُمْ وَهَلَاكُهُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَأْسُ يَسْطُو عَلَيْهِمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute